وإن كان الوصول إلى مقام النبوة وبلوغ العقل الكامل - في مرحلة الطفولة - باعثا على الحيرة ومعجزا، فإن التحدث في المهد عن الكتاب والنبوة أبعث على التعجب والحيرة، وأكثر إعجازا.
وعلى كل حال، فإن كلا الأمرين آيتان على قدرة الله الكبير المتعال، إحداهما أكبر من الأخرى، وقد صادف أن تكون كلا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب، حيث أن أم يحيى كانت أخت أم مريم، وكانت كلاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.
تقول الآية الأولى: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فقد كانت تبحث عن مكان خال من كل نوع من التشويش والضوضاء حتى لا يشغلها شئ عن مناجاتها ويصرفها - ولو حينا - عن ذكر المحبوب، ولذلك اختارت شرقي بيت المقدس، ذلك المعبد الكبير، لعله يكون مكانا أكثر هدوءا، أو أنه كان أنظف وأنسب من جهة أشعة الشمس ونورها.
كلمة " انتبذت " أخذت من مادة (نبذ) على قول الراغب، وهي تعني إلقاء وإبعاد الأشياء التي لا تسترعي الانتباه، وربما كان هذا التعبير في الآية إشارة إلى أن مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الانتباه، واختارت ذلك المكان من بيت الله للعبادة.
في هذه الأثناء من أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة، فإنها فاتخذت من دونهم حجابا ولم تصرح الآية بالهدف من اتخاذ هذا الحجاب، فهل أنه كان من أجل أن تناجي ربها بحرية أكبر، وتستطيع عند خلو هذا المكان من كل ما يشغل القلب والحواس أن تتوجه إلى العبادة والدعاء؟ أو أنها كانت تريد اتخاذه من أجل الغسل والاغتسال؟ الآية ساكتة من هذه الجهة.
على كل حال، فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا والروح أحد