حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وقد قال تعالى في الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس فلما أخبر أن في الخمر إثما كبيرا ثم صرح بتحريم الاثم ثبت تحريم الخمر بذلك قال وقول من قال إن الخمر تسمى الاثم لم نجد له أصلا في الحديث ولا في اللغة ولا دلالة أيضا في قول الشاعر شربت الاثم حتى ضل عقلي * كذاك الاثم يذهب بالعقول فإنه أطلق الاثم على الخمر مجازا بمعنى أنه ينشأ عنها الاثم واللغة الفصحى تأنيث الخمر وأثبت أبو حاتم السجستاني وابن قتيبة وغيرهما جواز التذكير ويقال لها الخمرة أثبته فيها جماعة من أهل اللغة منهم الجوهري وقال ابن مالك في المثلث الخمرة هي الخمر في اللغة وقيل سميت الخمر لأنها تغطي العقل وتخامره أي تخالطه أو لأنها هي تخمر أي تغطي حتى تغلي أو لأنها تختمر أي تدرك كما يقال للعجين اختمر أقوال سيأتي بسطها عند شرح قول عمر رضي الله عنه والخمر ما خامر العقل إن شاء الله تعالى * الحديث الأول حديث ابن عمر من طريق مالك عن نافع عنه وهو من أصح الأسانيد (قوله من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة) حرمها بضم المهملة وكسر الراء الخفيفة من الحرمان زاد مسلم عن القعنبي عن مالك في آخره لم يسقها وله من طريق أيوب عن نافع بلفظ فمات وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة وزاد مسلم في أول الحديث مرفوعا كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وأورد هذه الزيادة مستقلة أيضا من رواية موسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع وسيأتي الكلام عليها في باب الخمر من العسل ويأتي كلام ابن بطال فيها في آخر هذا الباب وقوله ثم لم يتب منها أي من شربها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه قال الخطابي والبغوي في شرح السنة معنى الحديث لا يدخل الجنة لان الخمر شراب أهل الجنة فإذا حرم شربها دل على أنه لا يدخل الجنة وقال ابن عبد البر هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة لان الله تعالى أخبر أن في الجنة أنهار الخمر لذة للشاربين وأنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون فلو دخلها وقد علم أن فيها خمرا أو أنه حرمها عقوبة له لزم وقوع الهم والحزن في الجنة ولا هم فيها ولا حزن وأن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في فقدها ألم فلهذا قال بعض من تقدم أنه لا يدخل الجنة أصلا قال وهو مذهب غير مرضي قال ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة فعلى هذا فمعنى الحديث جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا أن عفا الله عنه قال وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرا ولا تشتهيها نفسه وأن علم بوجودها فيها ويؤيده حديث أبي سعيد مرفوعا من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو (قلت) أخرجه الطيالسي وصححه ابن حبان وقريب منه حديث عبد الله بن عمرو ورفعه من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة أخرجه أحمد بسند حسن وقد لخص عياض كلام ابن عبد البر وزاد احتمالا آخر وهو أن المراد بحرمانه شربها أنه يحبس عن الجنة مدة إذا أراد الله عقوبته ومثله الحديث الآخر لم يرح رائحة الجنة قال ومن قال لا يشربها في الجنة بأن ينساها أو لا يشتهيها يقول ليس عليه في ذلك حسرة ولا يكون ترك شهوته إياها عقوبة في حقه بل هو نقص نعيم بالنسبة إلى من
(٢٦)