فقال أن في اللفظ مجازا وهو كون الداء في أحد الجناحين فهو إما من مجاز الحذف والتقدير فإن في أحد جناحيه سبب داء وإما مبالغة بأن يجعل كل الداء في أحد جناحيه لما كان سببا له وقال آخر يحتمل أن يكون الداء ما يعرض في نفس المرء من التكبر عن أكله حتى ربما كان سببا لترك ذلك الطعام وإتلافه والدواء ما يحصل من قمع النفس وحملها على التواضع (قوله وفي الآخر شفاء) في رواية أبي ذر وفي الأخرى وفي نسخة والاخرى بحذف حرف الجر وكذا وقع في رواية سليمان بن بلال في إحدى جناحيه داء والآخر شفاء واستدل به لمن يجيز العطف على معمولي عاملين كالأخفش وعلى هذا فيقرأ بخفض الآخر وبنصب شفاء فعطف الآخر على الاحد وعطف شفاء على داء والعامل في إحدى حرف في والعامل في داء إن وهما عاملان في الآخر وشفاء وسيبويه لا يجيز ذلك ويقول إن حرف الجر حذف وبقي العمل وقد وقع صريحا في الرواية الأخرى وفي الأخرى شفاء ويجوز رفع شفاء على الاستئناف واستدل بهذا الحديث على أن الماء القليل لا ينجس بوقوع ما لا نفس له سائلة فيه ووجه الاستدلال كما رواه البيهقي عن الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغمس ما ينجس ألما إذا مات فيه لان ذلك إفساد وقال بعض من خالف في ذلك لا يلزم من غمس الذباب موته فقد يغمسه برفق فلا يموت والحي لا ينجس ما يقع فيه كما صرح البغوي باستنباطه من هذا الحديث وقال أبو الطيب الطبري لم يقصد النبي النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث بيان النجاسة والطهارة وإنما قصد بيان التداوي من ضرر الذباب وكذا لم يقصد بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل والاذن في مراح الغنم طهارة ولا نجاسة وإنما أشار إلى أن الخشوع لا يوجد مع الإبل دون الغنم (قلت) وهو كلام صحيح إلا أنه لا يمنع أن يستنبط منه حكم آخر فإن الامر بغمسه يتناول صورا منها أن يغمسه محترزا عن موته كما هو المدعى هنا وأن لا يحترز بل يغمسه سواء مات أو لم يمت ويتناول ما لو كان الطعام حارا فإن الغالب أنه في هذه الصورة يموت بخلاف الطعام البارد فلما لم يقع التقييد حمل على العموم لكن فيه نظر لأنه مطلق يصدق بصورة فإذا قام الدليل على صورة معينة حمل عليها واستشكل ابن دقيق العيد إلحاق غير الذباب به في الحكم المذكور بطريق أخرى فقال ورد النص في الذباب فعدوه إلى كل ما لا نفس له سائلة وفيه نظر لجواز أن تكون العلة في الذباب قاصرة وهي عموم البلوى به وهذه مستنبطة أو التعليل بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء وهذه منصوصة وهذان المعنيان لا يوجدان في غيره فيبعد كون العلة مجرد كونه لا دم له سائل بل الذي يظهر أنه جزء علة لا علة كاملة انتهى وقد رجح جماعة من المتأخرين أن ما يعم وقوعه في الماء كالذباب والبعوض لا ينجس الماء وما لا يعم كالعقارب ينجس هو قوي وقال الخطابي تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له فقال كيف يجتمع الشفاء والداء في جناحي الذباب وكيف يعلم ذلك من نفسه حتى يقدم جناح الشفاء وما ألجأه إلى ذلك قال وهذا سؤال جاهل أو متجاهل فإن كثيرا من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة وقد ألف الله بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها قوي الحيوان وأن الذي ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه وألهم النملة أن تدخر قوتها أو أن حاجتها وأن تكسر الحبة نصفين لئلا تستنبت لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحا وتؤخر آخر وقال ابن الجوزي ما نقل عن هذا القائل ليس بعجيب فإن النحلة تعسل من أعلاها وتلقى السم من أسفلها والحية القاتل
(٢١٤)