والوجوب، الوحدة والكثرة، الوجود والعدم، وما إلى ذلك من مفاهيم وتصورات.
فنحن جميعا نعلم ان الحس انما يقع على ذات العلة وذات المعلول، فندرك ببصرنا سقوط القلم على الأرض إذا سحبت من تحته المنضدة التي وضع عليها، وندرك باللمس حرارة الماء حين يوضع على النار، وكذلك ندرك تمدد الفلزات في جو حار. ففي هذه الأمثلة نحس بظاهرتين متعاقبتين ولا نحس بصلة خاصة بينهما، هذه الصلة التي نسميها بالعلية. ونعني بها تأثير احدى الظاهرتين في الأخرى، وحاجة الظاهرة الأخرى إليها لأجل ان توجد. والمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحس لنفس العلية واعتبارها مبدأ حسيا وتقوم على تجنب العمق والدقة في معرفة ميدان الحسن وما يتسع له من معاني وحدود، فمهما نادى الحسيون بأن التجارب البشرية والعلوم التجريبية القائمة على الحس هي التي توضح مبدأ العلية، وتجعلنا نحس بصدور ظواهر مادية معينة من ظواهر أخرى مماثلة، أقول مهما نادوا بذلك فلن يحالفهم التوفيق ما دمنا نعلم ان التجربة العلمية لا يمكن ان تكشف بالحس الا الظواهر المتعاقبة، فنستطيع بوضع الماء على النار ان ندرك حرارة الماء وتضاعف هذه الحرارة وأخيرا بغليان الماء. وأما ان هذا الغليان منبثق عن بلوغ الحرارة درجة معينة فهذا ما لا يوضحه الجانب الحسي من التجربة، وإذا كانت تجاربنا الحسية قاصرة عن كشف مفهوم العلية فكيف نشأ هذا المفهوم في الذهن البشري وصرنا نتصوره ونفكر فيه.
وقد كان (دافيد هيوم) - أحد علماء رجال المبدأ الحسي - أدق من غيره في تطبيق النظرية الحسية، فقد عرف ان العلية بمعناها الدقيق لا يمكن ان تدرك بالحس، فأنكر مبدأ العلية، وأرجعها إلى عادة تداعي المعاني قائلا: اني أرى كرة البلياردو تتحرك فتصادف كرة أخرى فتتحرك هذه، وليس في حركة الأولى ما يظهرني على ضرورة تحرك الثانية. والحس الباطني يدلني على أن حركة الأعضاء في تعقب أمر الإرادة، ولكني لا أدرك به ادراكنا مباشرا علاقة ضرورية بين الحركة والأمر.