القائل ان الصورة المدركة نتاج مادي قائم بعضو الادراك في الجهاز العصبي - هو الذي يحدد المذهب الفلسفي للمادية. والافتراض الثالث - القائل ان الصورة المدركة - أو المحتوى العقلي لعملية الادراك - لا توجد في المادة، وانما هي لون من الوجود الميتافيزيقي، خارج العالم المادي، هو الذي يمثل المذهب الفلسفي للميتافيزيقية.
وفي هذه المرحلة من البحث، يمكننا ان نستبعد الافتراض المادي، استبعادا نهائيا. وذلك لأن الصورة المدركة، بحجمها وخصائصها الهندسية، وامتدادها طولا وعرضا، لا يمكن ان توجد في عضو مادي صغير، في الجهاز العصبي. فنحن وان كنا نعتقد، أن الأشعة الضوئية تنعكس على الشبكية، وتتصور في صورة خاصة، ثم تنتقل في أعصاب الحس إلى الدماغ، فتنشأ في موضع محدد منه، صورة مماثلة للصورة التي حدثت على الشبكية... ولكن هذه الصورة المادية، غير الصورة المدركة في عقلنا، لأنها لا تملك ما تملكه الصورة المدركة من خصائص هندسية. فكما ان الحديقة التي أدركناها في نظرة واحدة، لا يمكن أن نأخذ عنها صورة فوتوغرافية، موازية لها في السعة والشكل والامتداد، على ورقة مسطحة صغيرة، كذلك لا يمكن أن نأخذ عنها صورة عقلية، أو ادراكية - تحاكيها في سعتها، وشكلها، وخصائصها الهندسية - على جزء ضئيل من المخ لأن انطباع الكبير في الصغير مستحيل.
واذن فيصبح من الضروري، أن نأخذ بالافتراض، وهو ان الصورة المدركة، التي هي المحتوى الحقيقي للعملية العقلية، صورة ميتافيزيقية، موجودة وجودا مجردا عن المادة، وهذا هو كل ما يعنيه المفهوم الفلسفي الميتافيزيقي للادراك.
وقد يخطر هنا على بعض الأذهان، ان مسألة ادراك الصورة في أشكالها، وحجومها، وأبعادها ومسافاتها، قد أجاب عليها العلم، وعالجتها البحوث السيكولوجية. إذ أوضحت ان هناك عدة عوامل بصرية وعضلية، تساعدنا على ادراك تلك الخصائص الهندسية. فحاسة البصر لا تدرك سوى الضوء واللون، واما ادراك الخصائص الهندسية للأشياء، فهو يتوقف على ارتباط