الحديقة كلا متماسكا، تبدو فيه النخيل والأشجار، وبركة الماء الكبيرة، وألوان الحياة المتدفقة، في الأزهار والأوراد، والكراسي الموضوعة بانتظام حول بركة الماء، والبلابل، والطيور التي تشدو على الأغصان. والسؤال الذي يعترضنا حول هذه الصورة الرائعة، التي أدركناها بنظرة مستوعبة هو: ما هي هذه الصورة التي ندركها؟ وهل هي نفس الحديقة وواقعها الموضوعي بالذات، أو صورة مادية تقوم بعضو مادي خاص في جهازنا العصبي، أو لا هذا ولا ذاك بل صورة مجردة عن المادة، تماثل الواقع الموضوعي وتحكي عنه؟
أما أن الحديقة بواقعها الخارجي، هي الصورة المتمثلة في ادراكنا العقلي، فقد كانت تنادي بذلك نظرية قديمة في الرؤية، تفترض ان الانسان يدرك الواقع الموضوعي للأشياء نفسه، بسبب خروج شعاع خاص من العين، ووقوعه على المرئي، ولكن هذه النظرية سقطت.
- أولا - من الحساب الفلسفي، لأن خداع الحواس الذي يجعلنا ندرك صورا معينة، على أشكال خاصة لا واقع لها، يبرهن على ان الصورة المدركة، ليست هي الواقع الموضوعي، والا فما هو الواقع الموضوعي المدرك في الادراكات الحسية الخادعة؟ وسقطت - ثانيا - من الحساب العلمي، إذ أثبت العلم، ان الأشعة الضوئية، تنعكس من المرئيات على العين لا من العين عليها، وأنا لا نملك من الأشياء المرئية، الا الأشعة المنعكسة منها على الشبكية. حتى لقد أثبت العلم، ان رؤيتنا للشيء قد تحدث بعد انعدام ذلك الشيء بسنين. فنحن لا نرى الشعرى في السماء مثلا، الا حين تصل الموجات الضوئية الصادرة عن الشعرى إلى الأرض بعد عدة سنين من انطلاقها عن مصدرها، فتقع على شبكية العين. فنقول نحن نرى الشعرى غير ان هذه الموجات الضوئية التي تؤدي بنا إلى رؤية الشعرى انما تنبئنا عنها كما كانت قبل عدة سنين. ومن الجائز ان تكون الشعرى قد انعدمت من السماء قبل رؤيتنا لها بأمد طويل، وهذا يبرهن علميا على ان الصورة التي نحس بها الآن ليست هي الشعرى المحلقة في السماء، أي الواقع الموضوعي للنجم.
ويبقى في حسابنا بعد ذلك، الافتراضان الأخيران. فالافتراض الثاني -