والنتيجة الفلسفية، التي نخرج بها من هذا البحث، هي ان الادراك ليس ماديا، كما تزعم الفلسفة المادية، لان مادية الشيء تعني أحد أمرين: اما انه بالذات مادة، واما انه ظاهرة قائمة بالمادة. والادراك ليس بذاته مادة. ولا هو ظاهرة قائمة بعضو مادي كالدماغ، أو منعكسة عليه، لأنه يختلف في القوانين التي تسيطر عليه، عن الصورة المادية المنعكسة على العضو المادي. فهو يملك من الخصائص الهندسية - أولا - ومن الثبات - ثانيا - ما لا تملكه أي صورة مادية منعكسة على الدماغ. وعلى هذا الأساس تؤمن الميتافيزيقية، بأن الحياة العقلية - بما تزخر به من ادراكات وصور - أثرى ألوان الحياة وأرقاها، لأنها حياة ترتفع عن مستوى المادة وخصائصها. ولكن المسألة الفلسفية الأخرى التي تنبثق مما سبق، هي ان الادراكات والصور، التي تتشكل منها حياتنا العقلية، إذا لم تكن صورا قائمة بعضو مادي، فأين هي قائمة اذن؟ وهذا السؤال هو الذي دعا إلى استكشاف حقيقة فلسفية جديدة، وهي ان تلك الصور والادراكات. تجتمع أو تتابع كلها على صعيد واحد، هو صعيد الانسانية المفكرة، وليست هذه الانسانية المفكرة شيئا من المادة، كالدماغ أو المخ، بل هي درجة من الوجود مجردة عن المادة، يصلها الكائن الحي في تطوره وتكامله. فالمدرك والمفكر هو هذه الانسانية اللامادية.
ولكن يتضح الدليل على ذلك بكل جلاء، يجب ان نعلم أنا بين ثلاثة عروض: مبدأها ان ادراكنا لهذه الحديقة. أو لذلك النجم، صورة مادية قائمة بجهازنا العصبي، وهذا ما نبذناه ودللنا على رفضه. وثانيها ان إدراكاتنا ليست صورا مادية، بل هي صور مجردة عن المادة، وموجودة بصورة مستقلة عن وجودنا. وهذا افتراض غير معقول أيضا، لأنها إذا كانت موجودة بصورة مستقلة عنا، فما هي صلتنا بها؟ وكيف أصبحت ادراكات لنا؟ وإذا نفضنا يدينا من هذا وذاك، لم يبق لدينا الا التفسير الثالث للموقف، وهو ان تلك الادراكات والصور العقلية، ليست مستقلة في وجودها عن الانسان كما انها ليست حالة أو منعكسة في عضو مادي، وانما هي ظواهر مجردة عن المادة، تقوم بالجانب اللامادي من الانسان. فهذه الانسانية اللامادية (الروحية) هي التي تدرك وتفكر، لا العضو المادي، وان كان