، فكما ان الإلهي يجب عليه ان يبرهن على الاثبات، كذلك المادي هو مسؤول أيضا عن الدليل على النفي، لأنه لم يجعل القضية الميتافيزيقية موضع الشك، وانما نفاها نفيا قاطعا، والنفي القاطع كالاثبات القاطع، يفتقر إلى الدليل. فالمادي حين زعم ان السبب المجرد لا وجود له، ادعى في هذا الزعم ضمنا انه أحاط بالوجود كله، ولم يجد فيه موضعا للسبب المجرد، فلابد ان يقدم دليلا على هذه الإحاطة العامة، وتبريرا للنفي المطلق.
ونتساءل هنا من جديد: ما هي طبيعة الدليل الذي يمكن للإلهي أو للمادي ان يقدمه في هذا المجال؟ ونجيب ان دليل الاثبات أو النفي، يجب أن يكون هو العقل، لا التجربة المباشرة خلافا للمادية، التي درجت على اعتبار التجربة دليلا على مفهومها الخاص، زاعمة ان المفهوم الإلهي أو القضايا الميتافيزيقية بصورة عامة لا يمكن اثباتها بالتجربة، وان التجربة هي التي ترد على تلك المزاعم، لأنها تحلل الانسان والطبيعة، وتدلل على عدم وجود أشياء مجردة فيهما ذلك ان التجارب والحقائق العلمية إذا صح للمادية ما تزعمه، من انها لا تقوم دليلا على الاتجاه الإلهي، فهي أيضا لا تصلح دليلا للنفي المطلق، الذي يحدد الاتجاه المادي، فقد عرفنا ان الحقائق العلمية على اختلاف ألوانها ليست موضعا للنقاش بين الإلهية والمادية، وانما النقاش في التفسير الفلسفي لتلك الحقائق، أي في وجود سبب أعلى وراء حدود التجربة، ومن الواضح ان التجربة لا يمكن أن تعتبر برهانا على نفي حقيقة خارج حدودها. فالعالم الطبيعي إذا لم يجد السبب المجرد في مختبره، لم يكن هذا دليلا الا على عدم وجوده في ميدان التجربة. واما نفي وجوده في مجال فوق مجالات التجربة، فلا يمكن ان يستنتج من التجربة ذاتها.
ونؤكد بهذا البيان على أمرين:
(أحدهما)، ان المادية بحاجة إلى دليل على الجانب السلبي، الذي يميزها عن الإلهية، كحاجة الميتافيزيقا إلى برهان على الايجاب والاثبات.
و (الآخر): ان المادية اتجاه فلسفي كالإلهية، ولا توجد لدينا مادية علمية، أي تجريبية، لأن العلم كما عرفنا لا يثبت المفهوم المادي للعالم، لتكون المادية علمية. بل كل ما