يكشف عنه العلم من حقائق وأسرار في عالم الطبيعة، يترك مجالا لافتراض سبب أعلى فوق المادة. فالتجربة العلمية - مثلا - لا يمكن ان تدل على أن المادة ليست مخلوقة لسبب مجرد أو على أن أشكال الحركة وألوان التطور، التي استكشفها العلم في شتى جوانب الطبيعة، هي حركات وتطورات مكتفية ذاتيا، وليست منبثقة عن سبب فوق حدود التجربة ومجالاتها. وهكذا كل حقيقة علمية. فالدليل على المادية اذن لا يمكن ان يرتكز على الحقائق العلمية، أو التجارب بصورة مباشرة، وانما يصاغ في تفسير فلسفي لتلك الحقائق والتجارب، كالدليل على الإلهية تماما. ولنأخذ التطور لذلك مثلا، فالعلم يثبت وجود التطور الطبيعي في عدة من المجالات، ويمكن أن يوضع لهذا التطور تفسيران فلسفيان أحدهما انه منبثق عن صميم الشيء، وناتج عن صراع يفترض فيه بين المتناقضات، وهذا هو تفسير المادية الديالكتيكية. والآخر انه ناتج عن سبب أعلى مجرد، فالطبيعة المتطورة لا تحوي في ذاتها المتناقضات، وانما تنطوي على امكان التطور، وذلك السبب هو الذي يحقق للامكان الوجود الفعلي، وهذا هو تفسير الفلسفة الإلهية.
فنحن نلاحظ بوضوح ان المفهوم العلمي انما هو وجود التطور الطبيعي، وأما هذان المفهومان عن الحركة فهما مفهومان فلسفيان ولا يمكن ان يتأكد من صحة أحدهما، وخطأ الآخر بالتجربة المباشرة,.
3 - السؤال الثالث: إذا لم تكف التجربة العلمية بذاتها للبرهنة على المفهوم الإلهي والمادي على السواء، فهل يمكن للفكر البشري ان يستدل على أحد المفهومين ما داما معا خارجين عن النطاق التجريبي أو انه يصبح مضطرا إلى الاستسلام للشك، وتجميد مسألة الإلهية والمادية، والانصراف إلى المجال العلمي المثمر؟
والجواب: ان القدرة الفكرية للبشر كافية لدرس هذه المسألة والانطلاق فيها من التجربة ذاتها. ولكن لا على ان تكون التجربة هي الدليل المباشر على المفهوم، الذي نكونه عن العالم، بل تكون التجربة نقطة الابتداء ويوضع المفهوم الفلسفي الصحيح للعالم - وهو المفهوم الإلهي - على ضوء تفسير التجربة والظواهر التجريبية، بالمعلومات العقلية المستقلة.