- تعالى - أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكبوة مع كثرة عددهم وعددهم وقوة شوكتهم ليطأ من رؤوس رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعا رأسه منحنيا على فرسه، حتى إن ذقنه تكاد أن تمس سرجه تواضعا لربه تبارك وتعالى، وخضوعا لعظمته، واستكانة لعزته أن أحل له حرمة بلده، ولم يحله لاحد قبله، ولا لاحد بعده، وليبين عز وجل لمن قال: لن نغلب اليوم من قلة أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه - تعالى - هو الذي تولى نصر رسوله ودينه لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خلع الج. بر مع مزيد (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها) [التوبة 26] وقد اقتضت حكمته - تبارك وتعالى - أن خلع النصر وجوائزه إنما تفضى على أهل الانكسار (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) [القصص 5، 6] الثاني: وافتتح الله - سبحانه وتعالى - غزو العرب بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين، ولهذا يقرن هاتين الغزاتين بالذكر فيقال " بدر وحنين " وإن كان بينهما سبع سنين والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين بهاتين الغزاتين، والنبي - صلى الله عليه وسلم رمى وجوه المشركين بالحصا فيهما، وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، فالأولى خوفتهم وكسرت من حدتهم. والثانية: استفرغت قواهم، واستنفذت سهامهم، وأذلت جمعهم، حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله - تعالى - وجبر الله تبارك وتعالى أهل مكة بهذه الغزوة، وفرحهم بما نالوا من النصر والمغنم، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم، وإن كان عين جبرهم وقهرهم تمام نعمته عليهم بما صرفه عنهم من شر من كان يجاورهم من أشراف العرب من هوازن وثقيف، بما أوقع بهم من الكسرة، وبما قيض لهم من دخولهم في الاسلام، ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدتها. ومن تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله سبحانه وتعالى لمسبباتها قدرا وشرعا فان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق توكلا، فقد دخل مكة والبيضة على رأسه، ولبس يوم حنين درعين، وقد أنزل الله - سبحانه وتعالى (والله يعصمك من الناس) [المائدة 67] وكثير ممن لا تحقيق عنده يستشكل هذا ويتكايس في الجواب، تارة بان هذا فعله - صلى الله عليه وسلم - تعليما لامته، وتارة بان هذا كان قبل نزول الآية!! لو تأمل أن ضمان الله - سبحانه وتعالى - له العصمة لا ينافي تعاطيه لأسبابها فان هذا الضمان له من ربه - تبارك وتعالى - لا ينافي احتراسه من الناس ولا ينافيه، كما أن إخبار الله - عز وجل - له بأنه يظهره على الدين كله ويعليه، لا يناقض أمره
(٣٤٧)