استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر في وجهه على الحزن الكامن في قلبه، حتى حداه على سؤال حاله.
[37] وفي قوله: (ما بال أبي عمير؟) دليل على أن من السنة إذا رأيت أخاك أن تسأل عن حاله.
[38] وفيه دليل - كما قال بعض أهل العلم - على حسن الأدب بالسنة في تفريق اللفظ بين سؤالين:
فإذا سألت أخاك عن حاله قلت: مالك؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي قتادة: (مالك يا أبا قتادة؟) وإذا سألت غيره عن حاله قلت: ما بال أبي فلان؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ما بال أبي عمير؟). [39] وفي سؤاله صلى الله عليه وسلم من سأل - عن حال أبي عمير - دليل على إثبات خبر الواحد.
[40] وفيه دليل على أنه يجوز أن يكنى من لم يولد له، وقد كان عمر بن الخطابيكره ذلك حتى أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم. [41] وفي قوله: (مات نغيره الذي كان يلعب به): تركه النكير بعد ما سمع ذلك صلى الله عليه وسلم دليل على الرخصة في اللعب للصبيان. [42] وفيه دليل على الرخصة للوالدين في تخلية الصبي وما يروم من اللعب إذا لم يكن من دواعي الفجور، وقد كان بعض الصالحين يكره لوالديه أن يخلياه. [43] وفي دليل على أن إنفاق المال في ملاعب الصبيان ليس من أكل المال بالباطل، إذا لم يكن من الملاهي المنهية. [44] وفيه دليل على إمساك الطير في القفص. [45] وقص جناح الطير لمنعه من الطيران، وذلك أن لا يخلو من أن يكون النغيرة التي كان يلعب بها في قفص أو نحوه، من شد رجل أو غيره، أو أن تكون مقصوصة الجناح، فأيهما كان المنصوص، فالباقي قياس عليه، يكره قص جناح الطائر وحبسه في القفص. [46] وفيه دليل على أن رجلا لو اصطاد صيدا خارج الحرم ثم أدخل الحرم، لم يكن عليه إرساله، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الاصطياد بين لابتي المدينة، وأجاز لأبي عمير إمساكه فيها.
وكان ابن الزبير يفتي بإمساك ذلك، ومن حجته فيه: أن من اصطاد صيدا ثم أحرم وهو في يده، فعليه إرساله، فكذلك إذا اصطاد في الحل ثم أدخله الحرم.
وفرق الشافعي بين المسألتين كما وصفنا، فقال: من اصطاد ثم أحرم والصيد في ملكه فعليه إرساله، ومن اصطاده ثم أدخله الحرم فلا إرسال عليه. [47] وفي قوله: (ما فعل النغير؟)، دليل على جواز تصغير الأسماء كما صغر النغيرة، وكذلك المعنى في قوله: كان ابن لأبي طلحة يكنى أبا عمير.
[48] وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مازحه بذلك يبكي، ففي ذلك دليل على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إذا بكى اليتيم اهتز العرش)، ليس على العموم في جميع بكائه، وذلك أن بكاء الصبي على ضربين: أحدهما: بكاء الدلال عند المزاح والملاطفة، والآخر: بكاءالحزن أو الخوف عند الظلم أو المنع عما به إليه الحاجة، فإذا مازحت يتيما أو لاطفته فبكى، فليس في ذلك - إن شاء الله تعالى - اهتزاز عرش الرحمن. [49] وقد زعم بعض الناس أن الحكيم لا يواجه بالخطاب غير العاقل. وقال بعض أصحابنا، ليس كذلك، بل صفة الحكيم في خطابه أن لا يضع الخطاب في غير موضعه، وكان في هذا الحديث كذلك دليل، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم واجه الصغير بالخطاب عند المزاح فقال: (ما بال أبي عمير؟). [50] وفيه دليل على أن للعاقل أن يعاشر الناس على قدر عقولهم ولا يحمل الناس كلهم على عقله. [51] وفي نومه صلى الله عليه وسلم عندهم دليل على أن عماد القسم بالليل، وأن لا حرج على الرجل في أن يقيل بالنهار عند امرأة في غير يومها. [52] وفيه دليل على سنة القيلولة.
[53] وفي دليل على خلاف ما زعم بعضهم في أدب الحكام أن نوم الحكام والأمراء في منزل الرعية - ونحو ذلك من الأفعال - دناءة تسقط مروءة الحاكم. [54] وفي نومه على فراشها دليل على خلاف قول من كره أن يجلس الرجل في مجلس امرأة ليست له بمحرم أو يلبس ثوبها وإن كان على تقطيع الرجال. [55] وفيه أنه يجوز أن يدخل المرء على امرأة في منزلها وزوجها غائب وإن لم تكن ذات محرم له. [56] وفي نضح البساط له ونومه على فراشها دليل على إكرام الزائر. [57] وفيه أن التنعم الخفيف غير مخالف للسنة. وأن قوله: (كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وأصغى بسمعه)، ليس على العموم إلا فيما عدا التنعم القليل. [58] وفيه دليل على أنه ليس بفرض على المزور أن يشيع الزائر إلى باب الدار - كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتشييع الضيف إلى باب الدار - إذ لم يذكر في هذا الحديث تشييعهم له إلى الباب. [59] وقد اختلف أهل العلم في تفسير ما ذكر من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث هند بن أبي هالة: كانوا إذا دخلوا عليه لا يفترقون إلا عن ذواق: قال بعضهم: أراد به الطعام. وقال بعضهم:
أراد به ذواق العلم. ففي تفسير هذا الحديث، الدليل على تأويل من تأوله على ذواق العلم، إذ قد أذاقهم العلم ولم يذكر فيه ذواق الطعام. [60] وكان من صفته صلى الله عليه وسلم أنه يواسي بين جلسائه، حتى يأخذ منه كل بحظ، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دخوله على أم سليم: صافح أنسا، ومازح أبا عمير الصغير، ونام على فراش أم سليم، حتى نال الجميع من بركته صلى الله عليه وسلم، وزاد على الستين فقال:
[61] وإذا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم، فأقل ما في تحفظ طرقه أن يكون نافلة، وفيه أن قوما أنكروا خبر الواحد واختلفوا فيه: فقال بعضهم بجواز خبر الاثنين قياسا على الشاهدين، وقال بعضهم بجواز خبر الثلاثة، ونزع بقول الله جل ذكره: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين)، وقال بعضهم بجواز خبر الأربعة، قياسا على أعلى الشهادات وأكبرها، وقال بعضهم بالشائع والمستفيض، فكان في تحفظ طرق الأخبار ما يخرج به الخبر عن حد الواحد إلى حد الاثنين وخبر الثلاثة والأربعة، ولعله يدخل في خبر الشائع المستفيض. [62] وفيه أن الخبر إذا كانت له طرق، وطعن الطاعن على بعضها احتج الراوي بطريق آخر ولم يلزمه انقطاع، ما وجد إلى طريق آخر سبيلا.
[63] وفيه أن أهل الحديث لا يستغنون عن معرفة النقلة والرواة ومقدارهم في كثرة العلم والرواية، ففي تحفظ طرق الأخبار، ومعرفة من رواها، ومعرفة كم روى كل راو منهم ما يعلم به مقادير الرواة ومراتبهم في كثرة الرواية. [64] وفيه أنهم إذا استقصوا في معرفة طرق الخبر عرفوا به غلط الغالط، وميزوا به كذب الكاذب، وتدليس المدلس. [65] وإذا لم يستقص المرء في طرقه واقتصر على طريق واحد كان أقل ما يلزمه أن دلس عليه في الرواية أن يقول: لعله قد روي ولم أستقص فيه، فرجع باللائمة والتقصير على نفسه والانقطاع وقد حل لخصمه. [66] إن مثل هذا الحديث فيه تثبيت الامتحان، والتمييز بيننا وبين أمثالهم، إذا لم يهتدوا إلى شئ من تخريج فقهه، ويستخرج أحدنا منه - بعون الله وتوفيقه - كل هذه الوجوه، وفي ذلك وجهان:
أحدهما: اجتهاد المستخرج في استنباطه، والثاني: تبيين فضيلته في الفقه والتخريج على أغياره.
والعين المستنبط منها عين واحدة، ولكن من عجائب قدرة اللطيف في تدبير صنعه: أن تسقى بماء واحد ويفضل بعضها على بعض في الأكل.
(جزء فيه فوائد حديث أبي عمير): ص 19 - 35.