أخرى، فكيف ولو خلطت بها محظورا مثل أن تتقدم على إمامك، بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص، فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص، فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص؟ وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله: * (مخلصين) * قال بعضهم: مقرين له بالعبادة، وقال آخرون: قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة، وقال الزجاج: أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره، ويدل على هذا قوله: * (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا) *.
أما قوله تعالى: * (حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) * ففيه أقوال:
الأول: قال مجاهد: متبعين دين إبراهيم عليه السلام، ولذلك قال: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * وهذا التفسير فيه لطيف كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مستول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضا بالكلية، فلا جرم ذكر قوما أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم، وهو إبراهيم ومن معه، فقال: * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) * فكأنه تعالى قال: إن كنت تقلد أحدا في دينك، فكن مقلدا إبراهيم، حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران، ومن ماله حين بذله للضيفان، ومن ولده حين بذله للقربان، بل روى أنه سمع سبوح قدوس فاستطابه، ولم ير شخصا فاستعاده، فقال: أما بغير أجر فلا، فبذل كل ما ملكه فظهر له جبريل عليه السلام، وقال: حق لك حيث سماك خليلا فخذ مالك، فإن القائل: كنت أنا، بل انقطع إلى الله حتى عن جبريل حين قال: أما إليك فلا، فالحق سبحانه كأنه يقول: إن كنت عابدا فاعبد كعبادته، فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين، أما تترك الحرام وموافقة الشياطين، فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم، فاجتهد في متابعة ولده الصبي، كيف انقاد لحكم ربه مع صغره، فمد عنقه لحكم الرؤيا، وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل، وهو أم الذبيح، كيف تجرعت تلك الغصة، ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الإثنتين يقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإرث، والرقيقة نصف الحرة بدليل إن للحرة ليلتين من القسم فهاجر كانت ربع الرجل، ثم أنظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف، لا يكلمها ولا يعطف عليها، قالت آلله أمرك بهذا؟ فأومأ برأسه نعم، فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق.
والقول الثاني: المراد من قوله: * (حنفاء) * أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة، وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل، كقولنا: للأعمى بصير وللمهلكة مفازة، ونظيره قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * * (اهدنا الصراط المستقيم) *.
والقول الثالث: قال ابن عباس رضي الله عنهما حجاجا، وذلك لأنه ذكر العباد أولا ثم قال: * (حنفاء) * وإنما قدم الحج على الصلاة لأن في الحج صلاة وإنفاق مال الرابع: قال أبو قلابة