قوله عيسى عليه السلام، * (أنبئكم بما تأكلون، وما تدخرون في بيوتكم) * (آل عمران: 49) فالوجوه الثلاثة الأول لتقرير كونه فائقا في علم التعبير، والوجوه الثلاثة الأخر لتقرير كونه نبيا صادقا من عند الله تعالى.
فإن قيل: كيف يجوز حمل الآية على ادعاء المعجزة مع أنه لم يتقدم ادعاء للنبوة؟
قلنا: إنه وإن لم يذكر ذلك لكن يعلم أنه لا بد وأن يقال: إنه كان قد ذكره، وأيضا ففي قوله: * (ذلكما مما علمني ربي) * وفي قوله: * (واتبعت ملة آبائي) * ما يدل على ذلك.
ثم قال تعالى: * (ذلكما مما علمني ربي) * أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم، وإنما أخبرتكما بوحي من الله وعلم حصل بتعليم الله.
ثم قال: * (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: في قوله: * (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) * توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة. فنقول جوابه من وجوه: الأول: أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضا فيه. والثاني: وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبدا لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد، ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفا منهم على سبيل التقية، ثم إنه أظهره في هذا الوقت، فكان هذا جاريا مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
المسألة الثانية: تكرير لفظ * (هم) * في قوله: * (وهم بالآخرة هم كافرون) * لبيان اختصاصهم بالكفر، ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ، فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد.
واعلم أن قوله: * (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) * إشارة إلى علم المبدأ. وقوله: * (وهم بالآخرة هم كافرون) * إشارة إلى علم المعاد، ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد، وإن ما وراء ذلك عبث.
ثم قال تعالى: * (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) * وفيه سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في ذكر هذا الكلام. الجواب: أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة، وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء الله ورسله، فإن الإنسان متى ادعى حرفة