يتفقهون في الدين بسبب أنهم لما لازموا خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام وشاهدوا الوحي والتنزيل فكلما نزل تكليف وحدث شرع عرفوه وضبطوه، فإذا رجعت الطائفة النافرة من الغزو إليهم، فالطائفة المقيمة ينذرونهم ما تعلموه من التكاليف والشرائع، وبهذا التقرير فلا بد في الآية من إضمار، والتقدير: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، وأقامت طائفة ليتفقه المقيمون في الدين ولينذروا قومهم، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى عند ذلك التعلم.
والاحتمال الثاني: هو أن يقال: التفقه صفة للطائفة النافرة وهذا قول الحسن. ومعنى الآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين، وذلك التفقه المراد منه أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين، وأن العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين، فحينئذ يعلمون أن ذلك بسبب أن الله تعالى خصهم بالنصرة والتأييد وأنه تعالى يريد إعلاء دين محمد عليه السلام وتقوية شريعته، فإذا رجعوا من ذلك النفر إلى قومهم من الكفار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر والفتح والظفر لعلهم يحذرون، فيتركوا الكفر والشك والنفاق، فهذا القول أيضا محتمل، وطعن القاضي في هذا القول: قال لأن هذا الحس لا يعد فقها في الدين، ويمكن أن يجاب عنه بأنهم إذا شاهدوا أن القوم القليل الذين ليس لهم سلاح ولا زاد يغلبون الجمع العظيم من الكفار الذين كثر زادهم وسلاحهم، وقويت شوكتهم، فحينئذ انتبهوا لما هو المقصود وهو أن هذا الأمر من الله تعالى وليس من البشر. إذ لو كان من البشر لما غلب القليل الكثير، ولما بقي هذا الدين في التزايد والتصاعد كل يوم، فالتنبه لفهم هذه الدقائق واللطائف لا شك أنه تفقه.
وأما الاحتمال الثالث: وهو أن يقال هذه الآية ليست من بقايا أحكام الجهاد، بل هو حكم مبتدأ مستقل بنفسه، وتقريره أن يقال إنه تعالى لما بين في هذه السورة أمر الهجرة، ثم أمر الجهاد، وهما عبادتان بالسفر، بين أيضا عبادة التفقه من جهة الرسول عليه السلام وله تعلق بالسفر. فقال: وما كان المؤمنون لينفروا كافة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين بل ذلك غير واجب وغير جائز، وليس حاله كحال الجهاد معه الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له.
ثم قال: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم) * يعني من الفرق الساكنين في البلاد، طائفة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في ا لدين، وليعرفوا الحلال والحرام، ويعودوا إلى أوطانهم، فينذروا ويحذروا قومهم لكي يرجعوا عن كفرهم، وعلى هذا التقدير يكون المراد وجوب الخروج إلى حضرة الرسول للتفقه والتعلم.