عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة، ولما وصفهم الله بهذه الصفات الثلاث؛ قال: * (ثم تاب عليهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه لا بد ههنا من إضمار. والتقدير: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه. تاب عليهم ثم تاب عليهم، فما الفائدة في هذا التكرير؟
قلنا: هذا التكرير حسن للتأكيد كما أن السلطان إذا أراد أن يبالغ في تقرير العفو لبعض عبيده يقول عفوت عنك ثم عفوت عنك.
فإن قيل: فما معنى قوله: * (ثم تاب عليهم ليتوبوا) *.
قلنا فيه وجوه: الأول: قال أصحابنا المقصود منه بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقوله: * (ثم تاب عليهم) * يدل على أن التوبة فعل الله وقوله: * (ليتوبوا) * يدل على أنها فعل العبد، فهذا صريح قولنا، ونظيره * (فليضحكوا) * مع قوله: * (وأنه هو أضحك وأبكى) * وقوله: * (كما أخرجك ربك) * مع قوله: * (إذ أخرجه الذين كفروا) * وقوله: * (هو الذي يسيركم) * مع قوله: * (قل سيروا) * والثاني: المراد تاب الله عليهم في الماضي ليكون ذلك داعيا لهم إلى التوبة في المستقبل. والثالث: أصل التوبة الرجوع، فالمراد ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين، وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك. الرابع: * (ثم تاب عليهم ليتوبوا) * أي ليدوموا على التوبة، ولا يراجعوا ما يبطلها. الخامس: * (ثم تاب عليهم) * لينتفعوا بالتوبة ويتوفر عليهم ثوابها وهذان النفعان لا يحصلان إلا بعد توبة الله عليهم.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله عقلا قالوا: لأن شرائط التوبة في حق هؤلاء قد حصلت من أول الأمر. ثم إنه عليه الصلاة والسلام ما قبلهم ولم يلتفت إليهم وتركهم مدة خمسين يوما أو أكثر، ولو كان قبول التوبة واجبا عقلا لما جاز ذلك.
أجاب الجبائي عنه بأن قال: يقال إن تلك التوبة صارت مقبولة من أول الأمر، لكنه يقال: أراد تشديد التكليف عليهم لئلا يتجرأ أحد على التخلف عن الرسول فيما يأمر به من جهاد وغيره. وأيضا لم يكن نهيه عليه الصلاة والسلام عن كلامهم عقوبة، بل كان على سبيل التشديد في التكليف. قال القاضي: وإنما خص الرسول عليه الصلاة والسلام هؤلاء الثلاثة بهذا التشديد، لأنهم أذعنوا بالحق واعترفوا بالذنب، فالذي يجري عليهم، وهذه حالهم يكون في الزجر أبلغ مما يجري على من يظهر العذر من المنافقين.