كل موضع أقام به الإنسان لأمر، فعلى هذا: مواطن الحرب مقاماتها مواقفها. وامتناعها من الصرف لأنه جمع على صيغة لم يأت عليها واحد، والمواطن الكثيرة غزوات رسول الله. ويقال: إنها ثمانون موطنا، فأعلمهم الله تعالى بأنه هو الذي نصر المؤمنين، ومن نصره الله فلا غالب له.
ثم قال: * (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) * أي واذكروا يوم حنين من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم.
المسألة الثالثة: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقد بقيت أيام من شهر رمضان، خرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عطاء عن ابن عباس: كانوا ستة عشر ألفا، وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفا عشرة آلاف الذين حضروا مكة، وألفان من الطلقاء. وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف. وبالجملة فكانوا عددا كثيرين، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة، فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المراد من قوله: * (إذ أعجبتكم كثرتكم) * وقيل إنه قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل قالها أبو بكر. وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد، لأنه كان في أكثر الأحوال متوكلا على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها.
ثم قال تعالى: * (فلم تغن عنكم شيئا) * ومعنى الإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة فقوله: * (فلم تغن عنكم شيئا) * أي لم تعطكم شيئا يدفع حاجتكم. والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى أعلمهم أنهم لا يغلبون بكثرتهم، وإنما يغلبون بنصر الله، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، وقوله: * (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) * يقال رحب يرحب رحبا ورحابة، فقوله: * (بما رحبت) * أي برحبها، ومعناه مع رحبها " فما " ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر، والمعنى: أنكم لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعا يصلح لفراركم عن عدوكم. قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث. قال البراء: والذي إله إلا هو ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم دبره قط، قال: ورأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب، والعباس آخذ بلجام دابته وهو يقول: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي، وكانت بغلته شهباء، ثم قال للعباس: ناد المهاجرين والأنصار، وكان العباس رجلا صيتا، فجعل ينادي يا عباد الله يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فجاء