المسألة الأولى: قوله كتب كذا على فلان يفيد الإيجاب. ولكمة " على " أيضا تفيد الإيجاب ومجموعهما مبالغة في الإيجاب. فهذا يقتضي كونه سبحانه راحما لعباده رحيما بهم على سبيل الوجوب واختلف العقلاء في سبب ذلك الوجوب فقال أصحابنا: له سبحانه أن يتصرف في عبيده كيف شاء وأراد، إلا أنه أوجب الرحمة على نفسه على سبيل الفضل والكرم. وقالت المعتزلة: إن كونه عالما بقبح القبائح وعالما بكونه غنيا عنها، يمنعه من الإقدام على القبائح ولو فعله كان ظلما، والظلم قبيح، والقبيح منه محال. وهذه المسألة من المسائل الجلية في علم الأصول.
المسألة الثانية: دلت هذه الآية على أنه لا يمتنع تسمية ذات الله تعالى بالنفس وأيضا قوله تعالى: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * (المائدة: 116) يدل عليه، والنفس ههنا بمعنى الذات والحقيقة، وأما بمعنى الجسم والدم فالله سبحانه وتعالى مقدس عنه. لأنه لو كان جسما لكان مركبا والمركب ممكن وأيضا أنه أحد، والأحد لا يكون مركبا، وما لا يكون مركبا لا يكون جسما وأيضا أنه غني كما قال * (والله الغني) * والغني لا يكون مركبا وما لا يكون مركبا لا يكون جسما وأيضا الأجسام متماثلة في تمام الماهية، فلو كان جسما لحصل له مثل، وذلك باطل لقوله * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) فأما الدلائل العقلية فكثيرة ظاهرة باهرة قوية جلية والحمد لله عليه.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة قوله: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * ينافي أن يقال: إنه تعالى يخلق الكفر في الكافر، ثم يعذبه عليه أبد الآباد، وينافي أن يقال: إنه يمنعه عن الإيمان، ثم يأمره حال ذلك المنع بالإيمان، ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان. وجواب أصحابنا: أنه ضار نافع محيي مميت، فهو تعالى فعل تلك الرحمة البالغة وفعل هذا القهر البالغ ولا منافاة بين الأمرين.
المسألة الرابعة: من الناس من قال: إنه تعالى لما أمر الرسول بأن يقول لهم: * (سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) * كان هذا من قول الله تعالى ومن كلامه، فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قال لهم في الدنيا: * (سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) * وتحقيق هذا الكلام أنه تعالى وعد أقواما بأنه يقول لهم بعد الموت * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) ثم إن أقواما أفنوا أعمارهم في العبودية حتى صاروا في حياتهم الدنيوية كأنهم انتقلوا إلى عالم القيامة، لا جرم صار التسليم الموعود به بعد الموت في حق هؤلاء حال كونهم في الدنيا، ومنهم من قال: لا، بل هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. وقوله: وعلى التقديرين فهو درجة عالية.
ثم قال تعالى: * (إنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا لا يتناول التوبة من الكفر، لأن هذا الكلام خطاب مع الذين