قلنا: قد ذكرنا في سورة البقرة أن المراد من التحريف تفسير آيات التوراة بالوجوه الباطلة الفاسدة كما يفعله المبطلون في زماننا هذا بآيات القرآن.
فإن قيل: هب أنه حصل في التوراة آيات دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام. إلا أنها قليلة، والقوم ما كانوا يخفون من التوراة إلا تلك الآيات، فلم قال: ويخفون كثيرا.
قلنا: القوم كما يخفون الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فكذلك يخفون الآيات المشتملة على الأحكام، ألا ترى أنهم حاولوا على إخفاء الآية المشتملة على رجم الزاني المحصن.
الصفة الثالثة: قوله: * (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) * والمراد أن التوراة كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد واليهود قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرؤن تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها، فلما بعث الله محمدا ظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعثه صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المراد من قوله: * (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) *.
واعلم أنه تعالى لما وصف التوراة بهذه الصفات الثلاث، قال: * (قل الله) * والمعنى أنه تعالى قال في أول الآية: * (قل من أنزل الكتاب) * الذي صفته كذا وكذا فقال بعده: * (قل الله) * والمعنى أن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف بالصفات المذكورة المؤيد قول صاحبه بالمعجزات القاهرة الباهرة مثل معجزات موسى عليه السلام لا يكون إلا من الله تعالى، فلما صار هذا المعنى ظاهرا بسبب ظهور الحجة القاطعة، لا جرم قال تعالى لمحمد قل المنزل لهذا الكتاب هو الله تعالى، ونظيره قوله: * (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله) * وأيضا إن الرجل الذي حاول إقامة الدلالة على وجود الصانع يقول من الذي أحدث الحياة بعد عدمها، ومن الذي أحدث العقل بعد الجهالة، ومن الذي أودع في الحدقة القوة الباصرة، وفي الصماخ القوة السامعة، ثم إن ذلك القائل نفسه يقول * (الله) * والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة والبينة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالمقصود حاصل فكذا ههنا.
ثم قال تعالى بعده: * (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والأنذار وهذا المبلغ العظيم فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء البتة، ونظيره قوله تعالى: * (إن عليك إلا البلاغ) *.
المسألة الثانية: قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد لأن قوله * (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) * مذكور لأجل التهديد، وذلك لا ينافي حصول المقاتلة، فلم يكن ورود الآية