ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه عن رياستهم، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف، فهذا هو الرواية المشهورة في سبب نزول هذه الآية، وفيها سؤالات:
السؤال الأول: اللفظ وإن كان مطلقا بحسب أصل اللغة إلا أنه قد يتقيد بحسب العرف. ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار فغضب الزوج، وقال: إن خرجت من الدار فأنت طالق، فإن كثيرا من الفقهاء. قالوا: اللفظ وإن كان مطلقا إلا أنه بحسب العرف يتقيد لتلك المرة فكذا ههنا قوله: * (ما أنزل الله على بشر من شيء) * وإن كان مطلقا بحسب أصل اللغة، إلا أنه بحسب العرف يتقيد بتلك الواقعة فكان قوله: * (ما أنزل الله على بشر من شيء) * مراده منه أنه ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين، وإذا صار هذا المطلق محمولا على هذا المقيد لم يكن قوله: * (من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) * مبطلا لكلامه، فهذا أحد السؤالات:
السؤال الثاني: أن مالك بن الصيف كان مفتخرا بكونه يهوديا متظاهرا بذلك ومع هذا المذهب البتة أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغضب المدهش للعقل أو على سبيل لا يمكنه طغيان اللسان، ومثل هذا الكلام لا يليق بالله سبحانه وتعالى إنزال القرآن الباقي على وجه الدهر في إبطاله.
والسؤال الثالث: أن الأكثرين اتفقوا على أن هذه السورة مكية وأنها أنزلت دفعة واحدة، ومناظرات اليهود مع الرسول عليه الصلاة والسلام كانت مدنية، فكيف يمكن حمل هذه الآية على تلك المناظرة؟ وأيضا لما نزلت السورة دفعة واحدة، فكيف يمكن أن يقال: هذه الآية المعينة إنما نزلت في الواقعة الفلانية؟ فهذه هي السؤالات الواردة على هذا القول، والأقرب عندي أن يقال: لعل مالك بن الصيف لما تأذى من هذا الكلام طعن في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: ما أنزل الله عليك شيئا البتة، ولست رسولا من قبل الله البتة، فعند هذا الكلام نزلت هذه الآية، والمقصود منها أنك لما سلمت أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام، فعند هذا لا يمكنك الإصرار على أنه تعالى ما أنزل علي شيئا لأني بشر وموسى بشر أيضا، فلما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر امتنع عليك أن تقطع وتجزم بأنه ما أنزل الله علي شيئا، فكان المقصود من هذه الآية بيان أن الذي ادعاه محمد عليه الصلاة والسلام ليس من قبيل الممتنعات، وأنه ليس للخصم اليهودي أن يصر على إنكاره، بل أقصى ما في الباب أن يطالبه بالمعجز فإن أتى به فهو المقصود، وإلا فلا فإما أن يصر اليهودي على أنه تعالى ما أنزل على محمد شيئا البتة مع أنه معترف بأن الله تعالى أنزل الكتاب على موسى، فذاك