البتة، ثم إن الكثير من أهل هذا المذهب يحتجون على صحته بقوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره) * أي وما عرفوا الله حق معرفته، وهذا الاستدلال بعيد، لأنه تعالى ذكر هذه اللفظة في القرآن في ثلاثة مواضع، وكلها وردت في حق الكفار فههنا ورد في حق اليهود أو كفار مكة، وكذا القول في الموضعين الآخرين، وحينئذ لا يبقى في هذا الاستدلال فائدة. والله أعلم.
المسألة الخامسة: في هذه الآية أحكام. الحكم الأول أن النكرة في موضع النفي تفيد العموم، والدليل عليه هذه الآية فإن قوله: * (ما أنزل الله على بشر من شيء) * نكرة في موضع النفي، فلو لم تفد العموم لما كان قوله تعالى: * (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) * إبطالا له، ونقضا عليه، ولو لم يكن كذلك لفسد هذا الاستدلال، ولما كان ذلك باطلا، ثبت أن النكرة في موضع النفي تعم. والله أعلم. الحكم الثاني النقض يقدح في صحة الكلام، وذلك لأنه تعالى نقض قولهم: * (ما أنزل الله على بشر من شيء) * بقوله: * (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) * فلو لم يدل النقض على فساد الكلام لما كانت حجة الله مفيدة لهذا المطلوب.
واعلم أن قول من يقول: إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقص مبطلا ضعيف، إذ لو كان الأمر كذلك لسقطت حجة الله في هذه الآية لأن اليهودي كان يقول معجزات موسى أظهر، وأبهر من معجزاتك، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثباتها هنا، ولو كان الفرق مقبولا لسقطت هذه الحجة، وحيث لا يجوز القول بسقوطها علمنا أن النقض على الإطلاق مبطل والله أعلم.
الحكم الثالث تفلسف الغزالي فزعم أن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية، وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئا وأحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئا ينتج من الشكل الثاني: أن موسى ما كان من البشر، وهذا خلف محال، وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس، ولا بحسب صحة المقدمة الأولى، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية، وهي قولهم: ما أنزل الله على بشر من شيء، فوجب القول بكونها كاذبة، فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب، إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف. والله أعلم.