بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) *.
اعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى خمسة أنواع من التكاليف، وهي أمور ظاهرة جلية لا حاجة فيها إلى الفكر والاجتهاد، ثم ذكر تعالى في هذه الآية أربعة أنواع من التكاليف، وهي أمور خفية يحتاج المرء العاقل في معرفته بمقدارها إلى التفكر، والتأمل والاجتهاد.
فالنوع الأولى: من التكاليف المذكورة في هذه الآية قوله: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) *.
واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة: * (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير) * (البقرة: 220) والمعنى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بأن يسعى في تنميته وتحصيل الربح به ورعاية وجوه الغبطة له، ثم إن كان القيم فقيرا محتاجا أخذ بالمعروف، وإن كان غنيا فاحترز عنه كان أولى فقوله: * (إلا بالتي هي أحسن) * معناه كمعنى قوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * (النساء: 6).
وأما قوله: * (حتى يبلغ أشده) * فالمعنى احفظوا ماله حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله. وأما معنى الأشد وتفسيره: قال الليث: الأشد. مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة. قال الفراء: الأشد. وأحدها شد في القياس، ولم أسمع لها بواحد. وقال أبو الهيثم: واحدة الأشد شدة كما أن واحدة الأنعم نعمة، والشدة: القوة والجلادة، والشديد الرجل القوي، وفسروا بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام بشرط أن يؤنس منه الرشد، وقد استقصينا في هذا الفصل في أول سورة النساء.
والنوع الثاني: قوله تعالى: * (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) *.
اعلم أن كل شيء بلغ تمام الكمال، فقد وفى وتم. يقال: درهم واف، وكيل واف، وأوفيته حقه، ووفيته إذا أتممته، وأوفى الكيل إذا أتمه ولم ينقص منه شيئا وقوله: * (والميزان) * أي الوزن بالميزان وقوله: * (بالقسط) * أي بالعدل لا بخس ولا نقصان.
فإن قيل: إيفاء الكيل والميزان، هو عين القسط، فما الفائدة في هذا التكرير؟
قلنا: أمر الله المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان، وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة.