البحث الثالث: قوله: * (كلوا من ثمره) * يدل على أن صيغة الأمر قد ترد في غير موضع الوجوب وفي غير موضع الندب، وعند هذا قال بعضهم: الأصل في الاستعمال الحقيقة، فوجب جعل هذه الصيغة مفيدة لرفع الحجر، فلهذا قالوا: الأمر مقتضاه الإباحة، إلا أنا نقول: نعلم بالضرورة من لغة العرب أن هذه الصيغة تفيد ترجيح جانب الفعل، وأن حملها على الإباحة لا يصار إليه إلا بدليل منفصل.
أما قوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم * (حصاده) * بفتح الحاء والباقون بكسر الحاء قال الواحدي: قال جميع أهل اللغة يقال: حصاد وحصاد، وجداد وجداد، وقطاف وقطاف، وجذاذ وجذاذ، وقال سيبويه جاؤوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال، وربما قالوا فيه فعال.
البحث الثاني: في تفسير قوله: * (وآتوا حقه) * ثلاثة أقوال.
القول الأول: قال ابن عباس في رواية عطاء يريد به العشر فيما سقت السماء، ونصف العشر فيما سقي بالدواليب، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك.
فإن قالوا: كيف يؤدي الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل؟ وأيضا هذه السورة مكية، وإيجاب الزكاة مدني.
قلنا: لما تعذر إجراء قوله: * (وآتوا حقه) * على ظاهره بالدليل الذي ذكرتم. لا جرم حملناه على تعلق حق الزكاة به في ذلك الوقت، والمعنى: اعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد ولا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.
والجواب عن السؤال الثاني: لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة، بل لا نزاع أن الآية المدنية وردت بإيجابها، إلا أن ذلك لا يمنع أنها كانت واجبة بمكة. وقيل أيضا: هذه الآية مدنية.
والقول الثاني: أن هذا حق في المال سوى الزكاة. وقال مجاهد: إذا حصدت فحضرت المساكين فاطرح لهم منه، وإذا درسته وذريته فاطرح لهم منه، وإذا كربلته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته.
والقول الثالث: أن هذا كان قبل وجوب الزكاة، فلما فرضت الزكاة نسخ هذا، وهذا قول سعيد بن جبير، والأصح هو القول الأول، والدليل عليه أن قوله تعالى: * (وآتوا حقه) * إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوما قبل ورود هذه الآية لئلا تبقى هذه الآية مجملة. وقد قال عليه الصلاة