المسألة الرابعة: اختلفوا في معنى شياطين الإنس والجن على قولين: الأول: أن المعنى مردة الإنس والجن، والشيطان؛ كل عات متمرد من الإنس والجن، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ومجاهد والحسن وقتادة وهؤلاء قالوا: إن من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، وإن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس، وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر: " هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس؟ " قال قلت: وهل للإنس من شياطين؟ قال: " نعم هم شر من شياطين الجن ".
والقول الثاني: أن الجميع من ولد إبليس إلا أنه جعل ولده قسمين، فأرسل أحد القسمين إلى وسوسة الإنس. والقسم الثاني إلى وسوسة الجن، فالفريقان شياطين الإنس والجن، ومن الناس من قال: القول الأول أولى لأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين، ومنهم من يقول: القول الثاني أولى، لأن لفظ الآية يقتضي إضافة الشياطين إلى الإنس والجن. والإضافة تقتضي المغايرة، وعلى هذا التقدير: فالشياطين نوع مغاير للجن وهم أولاد إبليس.
المسألة الخامسة: قال الزجاج وابن الأنباري: قوله: * (عدوا) * بمعنى أعداء وأنشد ابن الأنباري:
إذا أنا لم أنفع صديقي بوده * فإن عدوي لن يضرهمو بغضي أراد أعدائي، فأدى الواحد عن الجمع، وله نظائر في القرآن. ومنها قوله: * (ضيف إبراهيم المكرمين) * (الذاريات: 24) جعل المكرمين وهو جمع نعتا للضيف وهو واحد، وثانيها: قوله: * (والنخل باسقات لها طلع) * (ق: 10) وثالثها: قوله: * (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) * (النور: 31) ورابعها: قوله: * (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا) * (العصر: 2) وخامسها: قوله: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) * (آل عمران: 93) أكد المفرد بما يؤكد الجمع به، ولقائل أن يقول لا حاجة إلى هذا التكلف، فإن التقدير: وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوا واحدا، إذ لا يجب لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد.
أما قوله تعالى: * (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * فالمراد أن أولئك الشياطين يوسوس بعضهم بعضا.
واعلم أنه لا يجب أن تكون كل معصية تصدر عن إنسان فإنها تكون بسبب وسوسة شيطان، وإلا لزم دخول التسلسل أو الدور في هؤلاء الشياطين، فوجب الاعتراف بانتهاء هذه القبائح والمعاصي إلى قبيح أول، ومعصية سابقة حصلت لا بوسوسة شيطان آخر.