وأجاب عنها بقوله * (إن أول بيت وضع للناس) * (آل عمران: 96) إلى آخرها، فعند هذا تمت وظيفة الاستدلال وكمل الجواب عن شبهات أرباب الضلال، فعند ذلك خاطبهم بالكلام اللين وقال: * (لم تكفرون بآيات الله) * بعد ظهور البينات وزوال الشبهات، وهذا هو الغاية القصوى في ترتيب الكلام وحسن نظمه.
الوجه الثاني: وهو أنه تعالى لما بين فضائل الكعبة ووجوب الحج، والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق والملة الصحيحة قال لهم: * (لم تكفرون بآيات الله) * بعد أن علمتم كونها حقة صحيحة.
واعلم أن المبطل إما أن يكون ضالا فقط، وإما أن يكون مع كونه ضالا يكون مضلا، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعا فبدأ تعالى بالإنكار عليهم في الصفة الأولى على سبيل الرفق واللطف.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله) * واختلفوا فيمن المراد بأهل الكتاب، فقال الحسن: هم علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوته، واستدل عليه بقوله * (وأنتم شهداء) * وقال بعضهم: بل المراد كل أهل الكتاب لأنهم وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم فكأنهم بترك الاستدلال والعدول إلى التقليد بمنزلة من علم ثم أنكر.
فإن قيل: ولم خص أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار؟.
قلنا لوجهين: الأول: أنا بينا أنه تعالى أورد الدليل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم أجاب عن شبههم في ذلك، ثم لما تم ذلك خاطبهم فقال: * (يا أهل الكتاب) * فهذا الترتيب الصحيح الثاني: أن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوة، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة بصدق الرسول والبشارة بنبوته.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة في قوله تعالى: * (لم تكفرون بآيات الله) * دلالة على أن الكفر من قبلهم حتى يصح هذا التوبيخ وكذلك لا يصح توبيخهم على طولهم وصحتهم ومرضهم.
والجواب عنه: المعارضة بالعلم والداعي.
المسألة الثالثة: المراد * (من آيات الله) * الآيات التي نصبها الله تعالى على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، والمراد بكفرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: * (والله شهيد على ما تعملون) * الواو للحال والمعنى: لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها وهذه الحال توجب أن لا تجترؤا على الكفر بآياته.
ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد