ما بعد هذه الآية يدل على ذلك وهو قوله * (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) * (آل عمران: 119) ومعلوم أن هذا لا يليق باليهود بل هو صفة المنافقين، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن) * (البقرة: 14) الثالث: المراد به جميع أصناف الكفار والدليل عليه قوله تعالى: * (بطانة من دونكم) * فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار وقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) * (الممتحنة: 1) ومما يؤكد ذلك ما روي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ههنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظا ولا أحسن خطأ منه، فإن رأيت أن تتخذه كاتبا، فامتنع عمر من ذلك وقال: إذن اتخذت بطانة من غير المؤمنين، فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلا على النهي عن اتخاذ بطانة، وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية، فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاما وآخرها إذا كان خاصا لم يكن خصوص آخر الآية مانعا من عموم أولها.
المسألة الثانية: قال أبو حاتم عن الأصمعي: بطن فلان بفلان يبطن به بطونا وبطانة، إذا كان خاصا به داخلا في أمره، فالبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يبطنون أمره وأصله من البطن خلاف الظهر، ومنه بطانة الثوب خلاف ظهارته، والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد التقريب يسمى بطانة لأنه بمنزلة ما يلي بطنه في شدة القرب منه.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (لا تتخذوا بطانة) * نكرة في سياق النفي فيفيد العموم.
أما قوله * (من دونكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: من دونكم أي من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم ولفظ * (من دونكم) * يحسن حمله على هذا الوجه كما يقال الرجل: قد أحسنتم إلينا وأنعمتم علينا، وهو يريد أحسنتم إلى إخواننا، وقال تعالى: * (ويقتلون النبيين بغير حق) * (آل عمران: 21) أي آباؤهم فعلوا ذلك.
المسألة الثانية: في قوله * (من دونكم) * احتمالان أحدهما: أن يكون متعلقا بقوله * (لا تتخذوا) * أي لا تتخذوا من دونكم بطانة والثاني: أن يجعل وصفا للبطانة والتقدير: بطانة كائنات من دونكم.
فإن قيل: ما الفرق بين قوله: لا تتخدوا من دونكم بطانة، وبين قوله * (لا تتخذوا بطانة من دونكم) *؟.
قلنا: قال سيبويه: إنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وههنا ليس المقصود اتخاذ البطانة إنما المقصود أن يتخذ منهم بطانة فكان قوله: لا تتخذوا من دونكم بطانة أقوى في إفادة المقصود.
المسألة الثالثة: قيل * (من) * زائدة، وقيل للنبيين: لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم.