في النظم وجهان الأول: أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان، وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين، كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية، ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال * (كنتم خير أمة) * والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة، وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة، وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف الثاني: أن الله تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله * (فأما الذين اسودت وجوههم) * (آل عمران: 106) وكمال حال السعداء وهو قوله * (وأما الذين ابيضت وجوههم) * (آل عمران: 107) نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله * (وما الله يريد ظلما للعالمين) * (آل عمران: 108) يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة، ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا * (خير أمة أخرجت للناس) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: لفظة * (كان) * قد تكون تامة وناقصة وزائدة على ما هو مشروح في النحو واختلف المفسرون في قوله * (كنتم) * على وجوه الأول: أن (كان ) ههنا تامة بمعنى الوقوع والحدوث وهو لا يحتاج إلى خبر، والمعنى: حدثتم خير أمة ووجدتم وخلقتم خير أمة، ويكون قوله * (خير أمة) * بمعنى الحال وهذا قول جمع من المفسرين الثاني: أن (كان) ههنا ناقصة وفيه سؤال: وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها.
والجواب عنه: أن قوله (كان) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، ولا يدل ذلك على انقطاع طارئ بدليل قوله * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا) * (نوح: 10) قوله * (وكان الله غفورا رحيما) * (الفتح: 14) إذا ثبت هذا فنقول: للمفسرين على هذا التقدير أقوال أحدها: كنتم في علم الله خير أمة وثانيها: كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة وهو كقوله * (أشداء على الكفار رحماء بينهم) * (الفتح: 29) إلى قوله * (ذلك مثلهم في التوراة) * (الفتح: 29) فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وثالثها: كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة ورابعها: كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس وخامسها: قال أبو مسلم قوله * (كنتم خير أمة) * تابع لقوله * (وأما الذين ابيضت وجوههم) * (آل عمران: 107) والتقدير: أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم