فدل على أنه كان بالاجتهاد الرابع: أنه لا طاعة إلا وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها أعظم نصيب ولا شك أن استنباط أحكام الله تعالى بطريق الاجتهاد طاعة عظيمة شاقة، فوجب أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها نصيب لا سيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق الله وتسديده معهم أكثر، ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد على الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته والأظهر الأقوى أن إسرائيل صلوات الله عليه إنما حرم ذلك على نفسه بسبب الاجتهاد إذ لو كان ذلك بالنص لقال إلا ما حرم الله على إسرائيل فلما أضاف التحريم إلى إسرائيل دل هذا على أن ذلك كان بالاجتهاد وهو كما يقال: الشافعي يحل لهم الخيل وأبو حنيفة يحرمه بمعنى أن اجتهاده أدى إليه فكذا ههنا.
الثالث: يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا، فكما يجب علينا الوفاء بالنذر كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم.
واعلم أن هذا لو كان فإنه كان مختصا بشرعه أما في شرعنا فهو غير ثابت قال تعالى: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * (التحريم: 1) الرابع: قال الأصم: لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس وطلبا لمرضاة الله تعالى، كما يفعله كثير من الزهاد فعبر من ذلك الامتناع بالتحريم الخامس:
قال قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب، وللمتكلمين في هذه المسألة منازعات كثيرة ذكرناها في أصول الفقه.
المسألة الثالثة: ظاهر هذه الآية يدل على أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه فقد حرمه الله على بني إسرائيل، وذلك لأنه تعالى قال: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) * فحكم بحل كل أنواع المطعومات لبني إسرائيل، ثم استثنى عنه ما حرمه إسرائيل على نفسه، فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراما على بني إسرائيل والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (من قبل أن تنزل التوراة) * فالمعنى أن قبل نزول التوراة كان حلا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه، أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم الله تعالى عليهم أنواعا كثيرة، روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم الله عليهم نوعا من أنواع الطعام، أو سلط عليهم شيئا لهلاك أو مضرة، دليله قوله تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * (النساء: 160).
ثم قال تعالى: * (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) * وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول