واعلم أن هذا القول ضعيف من وجوه أحدها: الفاء في قوله: * (فإذا أفضتم من عرفات) * يدل على أن هذه الإفاضة حصلت بعد انتفاء الفضل، وذلك يدل على وقوع التجارة في زمان الحج وثانيها: أن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لا على موضع الشبهة ومعلوم أن محل الشهبة هو التجارة في زمن الحج، فأما بعد الفراغ من الحج فكل أحد يعلم حل التجارة.
أما ما ذكره أبو مسلم من قياس الحج على الصلاة فجوابه: أن الصلاة أعمالها متصلة فلا يصح في أثنائها التشاغل بغيرها، وأما أعمال الحج فهي متفرقة بعضها عن بعض، ففي خلالها يبقى المرء على الحكم الأول حيث لم يكن حاجا لا يقال: بل حكم الحج باق في كل تلك الأوقات، بدليل أن حرمة التطيب واللبس وأمثالهما باقية، لأنا نقول: هذا قياس في مقابلة النص فيكون ساقطا.
القول الثالث: أن المراد بقوله تعالى: * (أن تبتغوا فضلا من ربكم) * هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجا أعمالا أخرى تكون موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وهذا القول منسوب إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام، واعترض القاضي عليه بأن هذا واجب أو مندوب، ولا يقال في مثله: لا جناح عليكم فيه، وإنما يذكر هذا اللفظ في المباحات.
والجواب: لا نسلم أن هذا اللفظ لا يذكر إلا في المباحات والدليل عليه قوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * (النساء: 101) والقصر بالإتفاق من المندوبات، وأيضا فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن ضم سائر الطاعات إلى الحج يوقع خللا في الحج ونقصا فيه، فبين الله تعالى أن الأمر ليس كذلك بقوله: * (لا جناح عليكم) * (الممتحنة).
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن التجارة إذا أوقعت نقصانا في الطاعة لم تكن مباحة، أما إن لم توقع نقصانا البتة فيها فهي من المباحات التي الأولى تركها، لقوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * (البنية: 5) والإخلاص أن لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة، وقال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: " أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه " والحاصل أن الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرخص.
قوله تعالى: * (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: الإفاضة الاندفاع في السير بكثرة، ومنه يقال: أفاض البعير بجرته، إذا وقع بها فألقاها منبثة، وكذلك أفاض الأقداح في الميسر، معناه جمعها ثم ألقاها متفرقة، وإفاضة