أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك وثالثها أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع: كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ومطلع عليه، كان هذا وعدا له بالثواب العظيم، ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعدا بالعقاب الشديد، ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب، ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب ورابعها: أن جبريل عليه السلام لما قال: ما الإحسان؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فههنا بين للعبد أنه يراه ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة، فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله كان أحرص على العمل وأكثر التذاذا به وأقل نفرة عنه وخامسها: أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك، فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله: * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) *.
أما قوله تعالى: * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * ففيه قولان أحدهما: أن المراد: وتزودوا من التقوى، والدليل عليه قوله بعد ذلك: * (فإن خير الزاد التقوى) * وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران: سفر في الدنيا وسفر من الدنيا، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد، وهو الطعام والشراب والمركب والمال، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضا من زاد، وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه الأول: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن وثانيها: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم وثالثها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة، آمنة من الانقطاع والزوال ورابعها: أن زاد الدنيا وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة، وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول وخامسها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس، فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية، فكأنه تعالى قال: لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه كثرة المنافع، وقال