ثم نقول قوله تعالى: * (اقتلوهم) * الخطاب فيه واقع على النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر معه وإن كان الغرض به لازما لكل مؤمن، والضمير في قوله: * (اقتلوهم) * عائد إلى الذين أمر بقتلهم في الآية الأولى وهم الكفار من أهل مكة، فأمر الله تعالى بقتلهم حيث كانوا في الحل والحرم، وفي الشهر الحرام، وتحقيق القول أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام.
المسألة الثانية: نقل عن مقاتل أنه قال: إن الآية المتقدمة على هذه الآية، وهي قوله: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) * (البقرة: 190) منسوخة بقوله تعالى: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * ثم تلك الآية منسوخة بقوله تعالى: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) * (البقرة: 193) وهذا الكلام ضعيف.
أما قوله: إن قوله تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) * منسوخ بهذه الآية، فقد تقدم إبطاله، وأما قوله: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * فهذا من باب التخصيص لا من باب النسخ، وأما قوله: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * منسوخ بقوله: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) * فهو خطأ أيضا لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم ما نسخ بل هو باق فثبت أن قوله ضعيف ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متوالية تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى.
أما قوله تعالى: * (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) * ففيه بحثان:
البحث الأول: أن الإخراج يحتمل وجهين أحدهما: أنهم كلفوهم الخروج قهرا والثاني: أنهم بالغوا في تخويفهم وتشديد الأمر عليهم، حتى صاروا مضطرين إلى الخروج.
البحث الثاني: أن صيغة * (حيث) * تحتمل وجهين أحدهما: أخرجوهم من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة والثاني: أخرجوهم من منازلكم، إذا عرفت هذا فنقول: أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يخرجوا أولئك الكفار من مكة إن أقاموا على شركهم إن تمكنوا منه، لكنه كان في المعلوم أنهم يتمكنون منه فيما بعد، ولهذا السبب أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مشرك من الحرم. ثم أجلاهم أيضا من المدينة، وقال عليه الصلاة والسلام: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ".
أما قوله تعالى: * (والفتنة أشد من القتل) * ففيه وجوه أحدها: وهو منقول عن ابن عباس: أن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى، وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى