الماء من هذا لأنه إذا صب تفرق والإفاضة في الحديث إنما هي الاندفاع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه، وعليه قوله تعالى: * (إذ تفيضون فيه) * (يونس: 61) ومنه يقال للناس: فوض، وأيضا جمعهم فوضى ويقال: أفاضت العين دمعها فأصل هذه الكلمة الدفع للشئ حتى يتفرق. فقوله تعالى: * (أفضتم) * أي دفعتم بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم، فترك ذكر المفعول، كما ترك في قولهم: دفعوا من موضع كذا وصبوا، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: ونزل في وادي قيروان وهو يخدش بعيره بمحجنه.
المسألة الثانية: * (عرفات) * جمع عرفة، سميت بها بقعة واحدة، كقولهم: ثوب أخلاق، وبرمة أعشار، وأرض سباسب، والتقدير: كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمى مجموع تلك القطع بعرفات، فإن قيل: هلا منعت من الصرف وفيها السببان: التعريف والتأنيث قلنا: هذه اللفظة في الأصل اسم لقطع كثيرة من الأرض كل واحدة منه مسماة بعرفة، وعلى هذا التقدير لم يكن علما ثم جعلت علما لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف.
المسألة الثالثة: اعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة، وذلك الموضع المخصوص سمي بعرفات، وذكروا في تعليل هذه الأسماء وجوها أما يوم التروية ففيه قولان أحدهما: من روي يروي تروية، إذا تفكر وأعمل فكره ورويته والثاني: من رواه من الماء يرويه إذا سقاه من عطش أما الأول: ففيه ثلاثة أقوال أحدها: أن آدم عليه السلام أمر ببناء البيت، فلما بناه تفكر فقال: رب إن لكل عامل أجرا فما أجري على هذا العمل؟ قال: إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك، قال: يا رب زدني قال: أغفر لأولادك إذا طافوا به، قال: زدني قال: أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك، قال: حسبي يا رب حسبي وثانيها: أن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح مفكرا هل هذا من الله تعالى أو من الشيطان؟ فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال: عرفت يا رب أنه من عندك وثالثها: أن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في غدهم بعرفات. أما القول الثاني: وهو اشتقاقه من تروية الماء، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن أهل مكة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق، وكان الحاج يستريحون في هذا اليوم من مشاق السفر، ويتسعون في الماء، ويروون بهائمهم بعد مقاساتهم قلة الماء في طريقهم والثاني: أنهم يتزودون الماء إلى عرفة والثالث: أن المذنبين كالعطاش الذي وردوا بحار رحمة الله فشربوا منها