وقوله تعالى: * (فمن فرض فيهن الحج) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: معنى * (فرض) * في اللغة ألزم وأوجب، يقال: فرضت عليك كذا أي أوجبته وأصل معنى الفرض في اللغة الحز والقطع، قال ابن الأعرابي: الفرض الحز في القدح وفي الوتد وفي غيره، وفرضة القوس، الحز الذي يقع فيه الوتر، وفرضة الوتد الحز الذي فيه، ومنه فرض الصلاة وغيرها، لأنها لازمة للعبد، كلزوم الحز للقدح، ففرض ههنا بمعنى أوجب، وقد جاء في القرآن: فرض بمعنى أبان، وهو قوله: * (سورة أنزلناها وفرضناها) * (النور: 1) بالتخفيف، وقوله: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) * (التحريم: 2) وهذا أيضا راجع إلى معنى القطع، لأن من قطع شيئا فقد أبانه من غيره والله تعالى إذا فرض شيئا أبانه عن غيره، ففرض بمعنى أوجب، وفرض بمعنى أبان، كلاهما يرجع إلى أصل واحد.
المسألة الثانية: اعلم أن في هذه الآية حذفا، والتقدير: فمن ألزم نفسه فيهن الحج، والمراد بهذا الفرض ما به يصير المحرم محرما إذ لا خلاف أنه لا يصير حاجا إلا بفعل يفعله، فيخرج عن أن يكون حلالا ويحرم عليه الصيد واللبس والطيب والنساء والتغطية للرأس إلى غير ذلك ولأجل تحريم هذه الأمور عليه سمي محرما، لأنه فعل ما حرم به هذه الأشياء على نفسه ولهذا السبب أيضا سميت البقعة حرما لأنه يحرم ما يكون فيها مما لولاه كان لا يحرم فقوله تعالى: * (فمن فرض فيهن الحج) * يدل على أنه لا بد للمحرم من فعل يفعله لأجله يصير حاجا ومحرما، ثم اختلف الفقهاء في أن ذلك الفعل ما هو؟ قال الشافي رضي الله عنه: أنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يصح الشروع في الإحرام بمجرد النية حتى ينضم إليها التلبية أو سوق الهدى، قال القفال رحمه الله في " تفسيره ": يروى عن جماعة أن من أشعر هديه أو قلده فقد أحرم، وروى نافع عن ابن عمر أنه قال: إذا قلد أو أشعر فقد أحرم، وعن ابن عباس: إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة والحج فقد أحرم، حجة الشافعي رضي الله عنه وجوه:
الحجة الأولى: قوله تعالى: * (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * وفرض الحج لا يمكن أن يكون عبارة عن التلبية أو سوق الهدي فإنه لا إشعار البتة في التلبية بكونه محرما لا بحقيقة ولا بمجاز فلم يبق إلا أن يكون فرض الحج عبارة عن النية، وفرض الحج موجب لانعقاد الحج، بدليل قوله تعالى: * (فلا رفث) * فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج.
الحجة الثانية: ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: " وإنما لكل امرئ ما نوى ".