أوائل الشهور وأنصافها وأواخرها أسهل مما إذا لم يكن كذلك، وأخبر جل جلاله أنه دبر الأهلة هذا التدبير العجيب لمنافع عباده في قوام دنياهم مع ما يستدلون بهذه الأحوال المختلفة على وحدانية الله سبحانه وتعالى وكمال قدرته، كما قال تعالى: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) * (آل عمران: 190) وقال تعالى: * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) * (الفرقان: 61) وأيضا لو لم يقع في جرم القمر هذا الاختلاف لتأكدت شبه الفلاسفة في قولهم: أن الأجرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها، فهو سبحانه وتعالى بحكمته القاهرة أبقى الشمس على حالة واحدة، وأظهر الإختلاف في أحوال القمر ليظهر للعاقل أن بقاء الشمس على أحوالها ليس إلا بإبقاء الله وتغير القمر في أشكاله ليس إلا بتغيير الله فيصير الكل بهذا الطريق شاهدا على افتقارها إلى مدبر حكيم قادر قاهر، كما قال: * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) *. إذا عرفت هذه الجملة فنقول: أنه لما ظهر أن الإختلاف في أحوال القمر معونة عظيمة في تعيين الأوقات من الجهات التي ذكرناها نبه تعالى بقوله: * (قل هي مواقيت للناس والحج) * على جميع هذه المنافع، لأن تعديد جميع هذه الأمور يقضي إلى الإطناب والاقتصار على البعض دون البعض ترجيح من غير مرجح فلم يبق إلا الاقتصار على كونه ميقاتا فكان هذا الاقتصار دليلا على الفصاحة العظيمة.
أما قوله تعالى: * (والحج) * ففيه إضمار تقديره وللحج كقوله تعالى: * (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) * أي لأوردكم، واعلم أنا بينا أن الأهلة مواقيت لكثير من العبادات فإفراد الحج بالذكر لا بد فيه من فائدة ولا يمكن أن يقال تلك الفائدة هي أن مواقيت الحج لا نعرف إلا بالأهلة، قال تعالى: * (الحج أشهر معلومات) * (البقرة: 197) وذلك لأن وقت الصوم لا يعرف إلا بالأهلة، قال تعالى: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * (البقرة: 185) وقال عليه السلام: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وأحسن الوجوه فيه ما ذكره القفال رحمه الله: وهو أن إفراد الحج بالذكر إنما كان لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسئ والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها أحدها: قال الحسن والأصم كان الرجل في الجاهلية إذا هم بشئ فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يأتيه من خلفه ويبقى على هذه الحالة حولا كاملا، فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيرا، وعلى هذا