لا جرم قال: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله، والانخراط في سلك الخواص من عباده، فلا يكون فيه هذه الأمور، وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلا عنها، ومن الله التوفيق في كل الأمور.
المسألة الرابعة: من الناس من عاب الاستدلال والبحث والنظر والجدال واحتج بوجوه أحدها: أنه تعالى قال: * (ولا جدال في الحج) * وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال، ولو كان الجدال في الدين طاعة وسبيلا إلى معرفة الله تعالى لما نهى عنه في الحج، بل على ذلك التقدير كان الإشتغال بالجدال في الحج ضم طاعة إلى طاعة فكان أولى بالترغيب فيه وثانيها: قوله تعالى: * (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) * (الزخرف: 58) عابهم بكونهم من أهل الجدل، وذلك يدل على أن الجدل مذموم، وثالثها: قوله: * (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) * (الأنفال: 46) نهى عن المنازعة.
وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا: الجدال في الدين طاعة عظيمة، واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) * (النحل: 125) وبقوله تعالى حكاية عن الكفار إنهم قالوا لنوح عليه السلام: * (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) * (هود: 32) ومعلوم أنه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين.
إذا ثبت هذا فنقول: لا بد من التوفيق بين هذه النصوص، فنحمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المال والجاه، والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله، والذب عن دين الله تعالى.
أما قوله تعالى: * (وما تفعلوا من خير يعلمه لله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * (البقرة: 197) فاعلم أن الله تعالى قبل هذه الآية أمر بفعل ما هو خير وطاعة، فقال: * (وأتموا الحج والعمر لله) * (البقرة: 196) وقال: * (فمن فرض فيهن الحج) * ونهى عما هو شر ومعصية فقال: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * ثم عقب الكل بقوله: * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) * وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال: وما تفعلوا من شئ يعلمه الله، حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر، إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف أحدها: إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته، وإذا علمت منك الشر سترته وأخفيته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا، فكيف في العقبى وثانيها: أن من المفسرين من قال في تفسير قوله: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) * (طه: 15) معناه: لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي لفعلت فكذا هذه الآية، كأنه قيل للعبد: ما تفعله من خير علمته، وأما الذي تفعله من الشر فلو أمكن أن