أثر في الجهاد إلا له، وفر في يوم أحد، وانهزم في يوم خيبر، وولى الدبر يوم التقى الجمعان، وسلم رسول الله صلى الله عليه وآله في هذه المواطن مع ما كتب الله عز وجل عليه من الجهاد، فكيف تجتمع دلائل الجبن ودلائل الشجاعة لرجل واحد في وقت واحد لولا أن العصبية تميل بالعبد إلى الهوى؟.
وقال رجل من طياب الشيعة كان حاضرا: عافاك الله، أي دليل هذا؟
وكيف يعتمد عليه؟ وأنت تعلم أن الإنسان قد يغضب فيقول: لو سامني السلطان هذا الأمر قبلته، وإن عندنا لشيخا ضعيف الجسم ظاهر الجبن يصلي بنا في مسجدنا، فما يحدث أمر يضجره وينكره إلا قال: والله لأصبرن على هذا أو لأجاهدن فيه ولو اجتمعت فيه ربيعة ومضر.
فقال: ليس الدليل على الشجاعة ما ذكرت دون غيره، والذي اعتمدنا عليه يدل كما يدل الفعل والخبر، ووجه الدلالة فيه: أن أبا بكر باتفاق لم يكن مؤوف العقل ولا غبيا ناقصا، بل كان بالإجماع من العقلاء، وكان بالاتفاق جيد الآراء، فلو لا أنه كان واثقا من نفسه عالما بصبره وشجاعته لما قال هذا القول بحضرة المهاجرين والأنصار، وهو لا يأمن أن يقيم القوم على خلافه فيخذلونه ويتأخرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الأمر على ما ادعيتموه عليه، فظهر منه الخلف في قوله، وليس يقع هذا من عاقل حكيم، فلما ثبتت حكمة أبي بكر دل مقاله الذي حكينا على شجاعته كما وصفناه.
فقال الشيخ أدام الله عزه: ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما لما ادعيت من شجاعته بما رويت عنه من القول، ولا يوجب ذلك في عرف ولا عقل ولا سنة ولا كتاب، وذلك أنه وإن كان ما ذكرت من الحكمة فليس يمنع أن يأتي بهذا القول من جبنه وخوفه وهلعه ليشجع أصحابه، ويحض المتأخرين عنه على نصرته، ويحثهم على جهاد عدوه، ويقوي عزمهم في معونته، ويصرفهم عن رأيهم في خذلانه، وهكذا يصنع الحكماء في تدبيراتهم، فيظهرون