أجاب بها (فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي احزنني) في أمر الآخرة أو بالم الفراق وشوق اللقاء (وأسهر ليلي) بترك النوم مع التفكر والتضرع والعبادة (وأظمأ هو اجرى) بالصيام، وترك الشراب والطعام، وبنسبة الأسهار إلى الليل والاظماء إلى الهواجر مجاز عقلي، واظماء الهواجر كناية عن الصوم في حر النهار فان الصوم فيه أشق أو أفضل وثوابه أكمل وأجزل (فغزفت نفسي عن الدنيا وما فيها) ومن نعيمها وزهراتها وعزفت بسكون التاء أي عاقتها وكراهتها نفسي وانصرفت عنها وضم التاء محتمل أي منعت نفسي وصرفتها عنها (حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم) تمثيل لحال الغايب بحال الشاهد لزيادة الايضاح مع احتمال إرادة الظاهر والإضافة للاختصاص كبيت الله وكأنه قصد إفادة حصول الظن بثبوت خبر كان لاسمه من غير تشبيه أو قصد تشبيه النظر القلبي بالنظر العيني لقصد التوضيح.
(وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون) أي يعرفون بعضهم بعضا ويتكلمون (وعلى الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون) أي صايحون مستغيثون. (وكأني الان أسمع زفير النار يدور في مسامعي) جمع مسمع وهو آلة السمع أو جمع سمع على غير قياس كمشابه وملامح جمع شبه ولمحة، وينبغي أن يعلم أن السالك العارف الموقن الزاهد وإن كان في الدنيا بجسده فهو في مشاهدة بعين بصيرة لأحوال الجنة ودرجاتها وسعاداتها وأهلها وأحوال النار ودركاتها وشقاوتها وأهلها كالذين شاهدوا الجنة بعين حسهم وتنعم أهلها وكالذين شاهدوا النار وعذاب أهلها، وهي مرتبة عين اليقين أو حق اليقين أو مرتبة علم اليقين على احتمال بعيد. والحق أن الجواب بمرتبة عين اليقين أنسب (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) بعد ما سمع منه هذه الآثار والامارات التي شواهد صدق على وجود حقيقة اليقين وغاية كماله فيه:
(هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان) أريد بالإيمان الإيمان الكامل، وقد مر أنه لا يتحقق إلا بعد استقامة جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة، ولا ريب في أن الإيمان بهذا المعنى نور إلهي يتنور به الظاهر والباطن، وكل يهتدي به إلى ما هو له وقد مر أيضا ان بين الظاهر والباطن مناسبة توجب تأثر كل منهما عن الآخر فنور الظاهر سبب لنور الباطن وبالعكس على وجه لا يدور، وإنما اكتفى بذر نور الباطن وهو نور القلب لأنه المقصود الأعظم والمطلوب الأهم ولأنه المقتضى للصفات المذكورة بلا واسطة (ثم قال له الزم ما أنت عليه) دل أن الكمالات البشرية قد تزول بعد المحافظة، ولذلك قال العارفون الخائفون من زوالها: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب».