وطيورها الصادحة الزاهية، هناك وجدها بعيدا عن كل رقيب، هناك مالت إلى منعطف هادئ وارف، ووقفت تنظره وكأنها غارقة في عميق أفكار، متصنعة ما يثير شبابه، ويسلب لبابه وهي تدري أنه لابد وأن يعبر الطريق في سيره على مقربة من فسحتها المختارة، فأدارت عن ذلك وجهها تارة، ومبدية أخرى، على حد قول الشاعر الجاهلي:
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي * بناظرة من وحش وجرة مطفل وقد فاح شذا طيبها، وبدت وكأنها وحيدة تناشد نفسها أبياتا بصوتها الرخيم الهادئ، وتثير حراكا كي تجلب صيدها إلى الفخ المنصوب، فهفا رياض لمصدر الحركة والنشيد، وتقدم بأقدام هادئة، وكأنه يحسب أنه يقوم بكل ذلك والفتاة في غفلة حالمة، وما أن وجد في جمال قوامها الرشيق، وبدا له طرفها الكحيل، وخدها الأسيل، هفا إليها مجذوبا، ولوصلها مخطوبا، وقف برهة ذاهلا، ومد بصره بقلق لأطرافها من العالي إلى الداني، وإذا بها وحيدة، فلعب به الهوى، وسلب منه كل قدرة وملكة، واندفع بخفة من ورائها يطوقها بذراعيه، ويقبلها قبلات حارة في العارضين، فبدت ممتعضة، والتفتت إليه متنكرة كوحش الظبي، فطبق آنذاك قبلاته على الثغر والعينين، والجيد والخدين، وأشفعها بكلمات الحب المبرح تتعالى أنفاسهما، وبدت تحاول الفرار والاستغاثة، وهو يتوسل إليها ناشدا، ويتضرع واجدا، قابضا على معصمها بيد، ومطوقا خصرها أخرى، فعلمت بنجاح كيدها، ووقوع صيدها في الفخ، فتظاهرت الاضطراب، وناشدته الركون إلى الهدوء والسكينة، وألقت عليه بضع أسئلة ليجيبها، ولم تكن جاهلة إلا بالقليل منها، فقد كانت عرفت حسبه ونسبه وعلمه وأدبه، فأجابها بالحقيقة، وأظهر لها كيف ملكت قلبه، وسلبت لبه، وعاهدها على الإخلاص في المودة، ووعدها بما