الظلم والجور. وإدمان الحروب والغارات. قد امتازت كل قبيلة بجبروت رياستها، واستقلت بعصبية قوميتها، حتى إن كل قبيلة اختصت بصنم معبود، لئلا تخضع إلى قبيلة أخرى، واستمروا على ذلك أجيالا متعددة تتراكم عليهم فيها ظلمات الوحشية. وضلالات الوثنية، وعوائد الظلم، وقساوة العداوة، والحروب المبيدة الفظيعة - بل كانت الدنيا بأسرها مرتبكة بين العبادة الأوثانية الصريحة. وبين التثليث وتجسيد الإله والسجود للأيقونات (الصور والتماثيل) وإن جرى لفظ التوحيد على بعض الألسن لفظا بلا معنى، حتى إنك رأيت معارف التوراة الدارجة في الإلهيات وعرفت أنها من مبادئ وثنية يجب أن ينزه عنها جلال الله.
وعند تراكم هذه الظلمات والضلالات، وهيجان براكينها الهائلة نبغ صاحب دعوة الاسلام والتوحيد الحقيقي (محمد) وأعلن بين العرب بادئ بدء بدعوة الاسلام التي هي أثقل عليهم من الجبال، فدعاهم جهارا إلى رفض معبوداتهم من الأوثان، وترك عوائدهم الوحشية، وإلى الخضوع لعدل المدنية، والتجمل بالأخلاق الفاضلة والآداب الراقية، واستمر على هذه الدعوة في مكة نحو ثلاثة عشر سنة.
وفي السنة الثالثة من دعواه الرسالة أعلن بدعوته لعامة الناس إعلاما تاما. وصار ينادي بدعوته في جميع أيامه في المحافل والمواسم بجميل الموعظة، وقاطع الحجة، والانذار بالعقاب والبشرى بالثواب، وحسن الترغيب والترهيب، وتلاوة القرآن. والإعذار بالنصيحة. لم يهب في دعوته طاغوتا ولم يستحقر فيها صعلوكا. يدعو الشريف والحقير والمرأة والعبد. وقد آمن في خلال هذه الدعوة بدعوته الثقيلة على الأهواء من كل وجهة خلق كثير من أهل مكة وضواحيها من قريش وغيرهم، واحتملوا في سبيل ذلك أشد الاضطهاد والهوان والجلاء عن الأوطان إلى الحبشة وغيرها. فكم من شريف في قبيلته عزيز في أهله وقومه صار بإسلامه مهانا مضطهدا، وكل هذا لم يصد الناس عن الاسلام لا يصد الضعيف ما يقاسيه من العذاب ولا يصد الشريف العزيز ما يلاقيه من