وكذلك تفسير قوله عز وجل: فاليوم ننسيهم كما نسوا لقاء يومهم هذا، يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسله وخافوه بالغيب. وأما قوله: وما كان ربك نسيا، فإن ربنا تبارك وتعالى علوا كبيرا ليس بالذي ينسى ولا يغفل، بل هو الحفيظ العليم، وقد يقول العرب في باب النسيان: قد نسينا فلان فلا يذكرنا أي أنه لا يأمر لنا بخير ولا يذكرنا به، فهل فهمت ما ذكر الله عز وجل؟ قال: نعم، فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.
فقال (عليه السلام): وأما قوله: يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، وقوله: والله ربنا ما كنا مشركين، وقوله: يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا، وقوله: إن ذلك لحق تخاصم أهل النار، وقوله:
لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد، وقوله: اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فإن ذلك في موطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة! يجمع الله عز وجل الخلائق يومئذ في مواطن يتفرقون ويكلم بعضهم بعضا، ويستغفر بعضهم لبعض، أولئك الذين كان منهم الطاعة في دار الدنيا. ويلعن أهل المعاصي الذين بدت منهم البغضاء وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا، الرؤساء والأتباع من المستكبرين والمستضعفين يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا. والكفر في هذه الآية: البراءة يقول يبرأ بعضهم من بعض، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان:
إني كفرت بما أشركتمون من قبل، وقول إبراهيم خليل الرحمن: كفرنا بكم، يعني تبرأنا منكم.
ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيه، فلو أن تلك الأصوات بدت لأهل الدنيا لأذهلت جميع الخلق عن معائشهم، ولتصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله، فلا يزالون يبكون الدم.