ويعتقد (لوك) أن المعرفة الوجدانية معرفة حقيقية ذات قيمة كاملة من الناحية الفلسفية، وكذلك المعرفة التأملية التي يمكن توضيحها باستدلال صحيح. وأما المعرفة الحسية فلا قيمة لها فلسفيا وان كانت معتبرة في مقاييس الحياة العملية ونظرا لذلك لم يؤمن موضوعيا بجميع خواص المادة المدركة بالحس، بل اعتبر بعضها خواصا حقيقية موضوعية كالشكل والامتداد، والحركة، واعتبر بعضها الآخر انفعالا ذاتيا كاللون والطعم والرائحة وما إليها من صفات.
ونظرية (لوك) هذه في المعرفة ووزنها الفلسفي لا يتفق مع رأيه الخاص في تحليل المعرفة، ذلك ان الادراك في زعم (لوك) يرجع كله إلى الحس والتجربة، وحتى المعارف البديهية - كمبدأ عدم التناقض ونحوه من المبادئ الأساسية في الفكر البشري - لم توجد لدى الانسان الا عن هذا الطريق. وهذا الحس الذي هو المصدر الأساسي لتلك الادراكات ليس ذا قيمة فلسفية قاطعة في نظرية المعرفة عند (لوك)، والنتيجة الطبيعية لذلك هي الشك المطلق في قيمة كل معرفة انسانية لأنها ليست في حقيقتها ونواتها الأساسية الا ادراكا حسيا اكتسب بالتجربة الظاهرية أو الباطنية.
وهكذا يبدو أن تنويعه للمعرفة إلى أقسام ثلاثة، والتفريق بينها من ناحية الاعتبار الفلسفي يتناقض مع الأسس التي أقامها.
كما أن تقسيمه لخواص الأجسام المحسوسة إلى طائفتين - كما فعل ديكارت - ليس منطقيا على أسسه، وان كان منطقيا إلى حد ما على أساس (ديكارت)، ذلك أن (ديكارت) كان يقسم المعرفة إلى عقلية وحسية. ويؤمن باعتبار الأولى من ناحية فلسفية دون الثانية، وقد زعم أن فكرة الانسان عن بعض خواص الجسم من الأفكار العقلية الفطرية، وفكرته عن بعضها الآخر حسية، فصح له بسبب ذلك أن ينوع تلك الخواص إلى أولية وثانوية، ويؤمن بأن الخواص الأولية حقيقية وموضوعية دون الخواص الثانوية. وأما (جون لوك) فقد بدأ بناءه الفلسفي بابعاد الأفكار الفطرية والايمان بسيادة الحس على الادراك كله فخواص الأجسام لا سبيل إلى ادراكها الا الحس، فما هو الفارق الفلسفي بين بعضها والبعض الآخر.