الدليل الأول: ان جميع الادراكات البشرية ترتكز على الحس وترجع اليه، فالحس هو القاعدة الرئيسية لها، وإذا حاولنا اختبار هذه القاعدة وجدناها مشحونة بالتناقضات والأخطاء. فحاسة البصر تتناقض دائما في رؤيتها للأجسام عند قربها وبعدها، فهي تدركها صغيرة الحجم إذا كانت بعيدة عنها، وتدركها بحجم أكبر إذا كانت قريبة منها، وحاسة اللمس هي أيضا تتناقض، فقد ندرك بها شيئا واحدا إدراكين مختلفين، ويوضح باركلي بعد ذلك فيقول، اغمس يديك في ماء دافئ بعد أن تغمس إحداهما في ماء ساخن والأخرى في ماء بارد، أفلا يبدو الماء باردا لليد الساخنة وساخنا لليد الباردة؟ فهل يجب اذن أن نقول عن الماء انه ساخن وبارد في نفس الوقت؟ أو ليس هذا هو الكلام الفارغ بعينه؟ واذن فلتستنتج معي ان الماء في ذاته لا يوجد كمادة مستقلا عن وجودنا. فهو ليس سوى اسم نطلقه نحن على إحساسنا. فالماء يوجد فينا نحن. وفي كلمة واحدة، المادة هي الفكرة التي نضعها عن المادة. وإذا كانت الإحساسات فارغة عن كل حقيقة موضوعية للتناقضات الملحوظة فيها لم تبق للمعرفة البشرية قيمة موضوعية مطلقا. لأنها ترتكز بصورة عامة على الحس وإذا انهارت القاعدة انهار الهرم كله.
وهذا الدليل لا قيمة له للأسباب الآتية:
أولا: ان المعارف البشرية لا ترتكز كلها على الحس والتجربة، لأن المذهب العقلي الذي درسناه في الجزء السابق من المسألة - المصدر الأساسي للمعرفة - يقرر وجود معارف أولية ضرورية للعقل البشري، وهذه المعارف الضرورية لم تنشأ من الحس ولا يبدو فيها شيء من التناقضات مطلقا، فلا يمكن اقتلاع هذه المعارف بالعاصفة التي تثار على الحس والادراكات الحسية، وما دمنا نملك معارف في منجاة عن العاصفة فمن الميسور ان نقيم على أساسها معرفة موضوعية صحيحة.
وثانيا: أن هذا الدليل يتناقض مع القاعدة الفلسفية المثالية (باركلي) - أي مع النظرية الحسية والمذهب التجريبي، ذلك أن باركلي فيه يعتبر مبدأ عدم التناقض حقيقة ثابتة ويستبعد من بداية الأمر امكان التناقض في