وهكذا استطاع الذهن ان يربط بين الحدوث والمادة وهمزة الربط هي حركة المادة، فان حركتها هي التي جعلتنا نعتقد بأنها حادثة لأننا نعلم أن كل متحرك هو حادث.
ويؤمن المذهب العقلي لأجل ذلك بقيام علاقة السببية في المعرفة البشرية بين بعض المعلومات وبعض، فان كل معرفة انما تتولد عن معرفة سابقة وهكذا تلك المعرفة حتى ينتهي التسلسل الصاعد إلى المعارف العقلية الأولية التي لم تنشأ عن معارف سابقة، وتعتبر لهذا السبب العلل الأولى للمعرفة.
وهذه العلل الأولى للمعرفة على نحوين: أحدهما ما كان شرطا أساسيا لكل معرفة انسانية بصورة عامة. والآخر ما كان سببا لقسم من المعلومات. والأول هو مبدأ عدم التناقض، فان هذا المبدأ لازم لكل معرفة وبدونه لا يمكن التأكد من أن قضية ما ليست كاذبة مهما أقمنا من الأدلة على صدقها وصحتها، لأن التناقض إذا كان جائزا فمن المحتمل أن تكون القضية كاذبة في نفس الوقت الذي نبرهن فيه على صدقها، ومعنى ذلك أن سقوط مبدأ عدم التناقض يعصف بجميع قضايا الفلسفة والعلوم على اختلاف ألوانها. والنحو الثاني من المعارف الأولية هو سائر المعارف الضرورية الأخرى التي تكون كل واحدة منها سببا لطائفة من المعلومات.
وبناء على المذهب العقلي يترتب ما يأتي:
أولا: أن المقياس الأول للتفكير البشري بصورة عامة هو المعارف العقلية الضرورية، فهي الركيزة الأساسية التي لا يستغنى عنها في كل مجال، ويجب أن تقاس صحة كل فكرة وخطأها على ضوئها. ويصبح بموجب ذلك ميدان المعرفة البشرية أوسع من حدود الحس والتجربة، لأنه يجهز الفكر البشري بطاقات تتناول ما وراء المادة من حقائق وقضايا ويحقق للميتافيزيقا والفلسفة العالية امكان المعرفة. وعلى عكس ذلك المذهب التجريبي فإنه يبعد مسائل الميتافيزيقا عن مجال البحث لأنها مسائل لا تخضع للتجربة ولا يمتد إليها الحس العلمي، فلا يمكن التأكد فيها من نفي أو اثبات ما دامت التجربة هي المقياس الأساسي الوحيد، كما يزعم المذهب التجريبي.