وأوضح منها كما في القضايا الآتية: (الأرض كروية) (الحركة سبب الحرارة)، (التسلسل ممتنع)، (الفلزات تتمدد بالحرارة) (زوايا المثلث تساوي قائمتين)، (المادة تتحول إلى طاقة) وما إلى ذلك من قضايا الفلسفة والعلوم. فان هذه القضايا حين تعرض على النفس لا تحصل على حكم في شأنها الا بعد مراجعة للمعلومات الأخرى. ولأجل ذلك فالمعارف النظرية مستندة إلى المعارف الأولية الضرورية، فلو سلبت تلك المعارف الأولية من الذهن البشري لم يستطع التوصل إلى معرفة نظرية مطلقا - كما سنوضح ذلك فيما بعد ان شاء الله.
فالمذهب العقلي يوضح ان الحجر الأساسي للعلم هو المعلومات العقلية الأولية، وعلى ذلك الأساس تقوم البنيات الفوقية للفكر الانساني التي تسمى بالمعلومات الثانوية.
والعملية التي تستنبط بها معرفة نظرية من معارف سابقة هي العملية التي نطلق عليها اسم الفكر والتفكير. فالتفكير جهد يبذله العقل في سبيل اكتساب تصديق وعلم جديد من معارفه السابقة. بمعنى أن الانسان حين يحاول أن يعالج قضية جديدة كقضية (حدوث المادة) - مثلا - ليتأكد من أنها حادثة أو قديمة يكون بين يديه أمران: أحدهما الصفة الخاصة وهي (الحدوث)، والآخر الشيء الذي يريد أن يتحقق من اتصافه بتلك الصفة وهو (المادة). ولما لم تكن القضية من الأوليات العقلية فالانسان سوف يتردد بطبيعته في اصدار الحكم والاذعان بحدوث المادة، ويلجأ حينئذ إلى معارفه السابقة ليجد فيها ما يمكنه أن يركز عليه حكمه ويجعله واسطة للتعرف على حدوث المادة. وتبدأ بذلك عملية التفكير باستعراض المعلومات السابقة. ولنفترض ان من جملة تلك الحقائق التي كان يعرفها المفكر سلفا هي (الحركة الجوهرية) التي تقرر ان المادة حركة مستمرة وتجدد دائم، فان الذهن سيضع يده على هذه الحقيقة حينما تمر امامه في الاستعراض الفكري ويجعلها همزة الوصل بين المادة والحدوث، لان المادة لما كانت متجددة فهي حادثة حتما لان التغير المستمر يعني الحدوث على طول الخط وتتولد عندئذ معرفة جديدة للانسان وهي ان المادة حادثة لأنها متحركة ومتجددة وكل متجدد حادث.