فلسفتنا - السيد محمد باقر الصدر - الصفحة ١٧٠
إحداهما: الفكر الماركسية عن تطور الحقيقة وحركتها، القائلة: ان كل حقيقة تتحرك وتتغير بصورة مستمرة، والأخرى، الفكرة الماركسية على تناقضات الحركة، القائلة ان الحركة عبارة عن سلسلة من التناقضات. فالشئ المتحرك في كل لحظة هو في نقطة معينة وليس هو في تلك النقطة، ولذلك تعتبر الماركسية الحركة نقضا لمبدأ الهوية.
فكان من نتيجة هاتين الفكرتين ان الحقيقة والخطأ يجتمعان وليس بينهما تعارض مطلق، ذلك ان الحقيقة لما كانت في حركة، وكانت الحركة تعني التناقض المستمر فالحقيقة اذن حقيقة وليست بحقيقة بحكم تناقضاتها الحركية.
وقد تبينا فيما قدمناه، مدى خطأ الفكرة الأولى عن حركة الحقيقة وتطورها. وسوف نعرض بكل تفصيل للفكرة الثانية عند تناول الديالكتيك بالدرس المستوعب في المسألة الثانية (المفهوم الفلسفي للعالم) وسوف يزداد وضوحا عند ذاك الخطأ والاشتباه في قوانين الديالكتيك بصورة عامة، وفي تطبيقه على الفكرة بصورة خاصة.
ومن الواضح ان تطبيق قوانين الديالكتيك من التناقض والتطور على الأفكار والحقائق بالشكل المزعوم، يؤدي إلى انهيار القيمة المؤكدة لجميع المعارف والاحكام العقلية مهما كانت واضحة وبدهية. وحتى الاحكام المنطقية أو الرياضية البسيطة تفقد قيمتها، لأنها تخضع بموجب التناقضات المحتواة فيها على الرأي الديالكتيكي - لقوانين التطور والتغير المستمر، فلا يؤمن على ما ندركه الآن من الحقائق - نظير 2 + 2 = 4 والجزء أصغر من الكل - أن يتغير بحكم التناقضات الديالكتيكية فندركه على شكل آخر (1).

(1) ومن الطريف حقا تلك المحاولات التي تتخذ باسم العلم، لتفنيد البدهيات العقلية، من رياضية ومنطقية، مع أن العلم لا يمكن ان يقوم الا على أساسها. وفيما يلي أمثلة من تلك المحاولات للدكتور نوري جعفر، ذكرها في كتابه فلسفة التربية ص 66: ((وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول: ان جميع القوانين العلمية قوانين نسبية، تعمل في مجالات معينة لا تتعداها، ويصدق ما ذكرناه على قوانين الرياضيات وبعض مظاهرها التي تبدو لأول وهلة، كأنها من الأمور البديهية، التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان. فحاصل جمع 2 زائد 2 مثلا لا يساوي 4 دائما. من ذلك - مثلا - اننا إذا جمعنا حجمين من الكحول مع حجمين من الماء، فالنتيجة تكون أقل من 4 حجوم ممزوجة، وسبب ذلك راجع إلى ان السائلين تختلف جزئيات أحدهما في شدة تماسكها عن الآخر فتنفذ عند المزج جزئيات السائل الأكثر تماسكا (الماء) من بين الفراغات النسبية الموجودة بين جزئيات الكحول، وتكون النتيجة مشابهة لخلط مقدار من البرتقال مع مقدار من الرقي حيث ينفذ قسم من البرتقال من بين الفراغات الموجودة في الرقي. وحاصل جمع كالون من الماء مع كالون من حامض الكبريتيك انفجار مرعب، على ان ذلك الجمع إذا تم بدقة علمية وبشكل يتفادى حدوث الانفجار، فان النتيجة مع هذا تكون أقل من كالونين من المزيج. ويكون حاصل جمع 2 + 2 = 2 أحيانا أخرى، فإذا خلطنا غازين درجة حرارة كل منهما درجتان مئويتان، فان درجة حرارة الخليط تبقى درجتين)).
وهذا النص يعرض لنا ثلاث عمليات رياضية:
(أ) ان حجمين من الكحول إذا جمعناهما مع حجمين من الماء فالنتيجة تكون أقل من (4) حجوم. وهذه العملية تنطوي على مغالطة. وهي اننا في الحقيقة لم نجمع بين حجمين وحجمين. وانما خسرنا شيئا في الجمع فظهرت الخسارة في النتيجة. ذلك ان حجم الكحول لم يكن متقوما بالجزئيات فحسب. وانما يتقوم بالجزئيات والفراغ النسبي القائم بينها، فإذا أحضرنا حجمين من الكحول كان هذان الحجمان يعبران عن جزئيات وفراغ بينهما لا عن الجزئيات فحسب. وحين يلقى على الكحول حجمين من الماء وتتسلل جزئيات الماء إلى الفراغ النسبي القائم بين جزئيات الكحول فتشغله نكون قد فقدنا هذا الفراغ النسبي الذي كان له نصيب من حجم الكحول.
فلم نجمع اذن بين حجمين من الكحول وحجمين من الماء, وانما جمعنا بين حجمين من الماء وجزئيات حجمين من الكحول. واما الفراغ النسبي فيها فقد سقط من الحساب. وهكذا يتضح انا إذا أردنا ان ندقق في صوغ العملية الرياضية نقول ان جمع حجمين كاملين من الماء مع حجمين من الكحول. باستثناء الفراغ المتخلل بين جزئياته، يساوي أربعة حجوم باستثناء ذلك الفراغ نفسه. وليست قصة هذه الحجوم الا كآلاف النظائر والأمثلة الطبيعية التي يشاهدها كل الناس في حياتهم الاعتيادية. فماذا نقول في جسم قطني ارتفاعه متر وقطعة من حديد ارتفاعها متر أيضا. لو وضعنا أحد الجسمين على الاخر فهل ينتج عن ذلك ارتفاع مترين؟ وفي تراب ارتفاعه متر وماء ارتفاعه متر. ثم ألقينا الماء على التراب فهل نجني من ذلك ارتفاعا مضاعفا؟ طبعا لا. فهل من الجائز ان نعتبر ذلك دليلا على تفنيد البديهيات الرياضية؟
(ب) ان جمع كالون من الماء مع كالون من حامض الكبريتيك لا ينتج كالونين وانما يحصل من ذلك انفجار مرعب. وهذا أيضا لا يتعارض مع البدهية الرياضية في جمع الاعداد، ذلك ان (1 + 1) انما يساوي اثنين إذا لم يعدم أحدهما أو كلاهما حال الجمع والمزج، والا لم يحصل جمع بين واحد وواحد بمعناه الحقيقي. ففي هذا المثال لم تكن الوحدتان - الكالونان - موجودتين حين اتمام عملية الجمع لينتج اثنين.
(ج) ان جمع غازين درجة حرارة كل منهما درجتان مئويتان، ينتج حرارة الخليط بنفس تلك الدرجة أيضا من دون مضاعفة.
وهذا لون آخر من التمويه لان العملية انما جمعت بين غازين وخلطت بينهما، لا أنها جمعت بين درجتي الحرارة. وانما يجمع بين الدرجتين لو ضوعفت الدرجة في موضوعها. فنحن لم نضف حرارة على حرارة لنترقب حدوث درجة أضخم للحرارة، وانما أضفنا حارا إلى حار وخلطنا بينهما.
وهكذا يتضح ان كل تشكيك أو نقض يدور حول البدهيات العقلية الضرورية، مرده في الحقيقة إلى لون من المغالطة أو عدم إجادة فهم تلك البدهيات وسوف يبدو هذا بكل وضوح عند عرضنا لنقوض الماركسية التي حاولت ان ترد على مبدأ عدم التناقض.
(١٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 165 166 167 168 169 170 171 172 173 174 175 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 كلمة المؤلف 7
2 تمهيد... المسألة الاجتماعية 11
3 المذاهب الاجتماعية 12
4 الديموقراطية الرأسمالية 13
5 الاتجاه المادي في الرأسمالية 16
6 موضع الاخلاق من الرأسمالية 19
7 مآسي النظام الرأسمالي 20
8 الاشتراكية والشيوعية 24
9 الانحراف عن العملية الشيوعية 26
10 المؤاخذات على الشيوعية 28
11 التعليل الصحيح للمشكلة 32
12 كيف تعالج المشكلة 36
13 رسالة الدين 40
14 1 - نظرية المعرفة 51
15 1 - المصدر الأساسي للمعرفة 51
16 التصور ومصدره الأساسي 52
17 1 - نظريات الاستذكار الأفلاطونية 53
18 2 - النظرية العقلية 54
19 3 - النظرية الحسية 57
20 4 - نظرية الانتزاع 61
21 التصديق ومصدره الأساسي 62
22 1 - المذهب العقلي 63
23 2 - المذهب التجريبي 66
24 الماركسية والتجربة 79
25 التجربة والكيان الفلسفي 82
26 المدرسة الوضعية والفلسفة 85
27 الماركسية والفلسفة 90
28 2 - قيمة المعرفة 95
29 1 - آراء اليونان 97
30 2 - ديكارت 98
31 3 - جون لوك 102
32 4 - المثاليون 104
33 أ - المثالية الفلسفية 105
34 ب - المثالية الفيزيائية 115
35 ج - المثالية الفيزيولوجية 122
36 5 - أنصار الشك الحديث 123
37 6 - النسبيون 125
38 أ - نسبية كانت 126
39 ب - النسبية الذاتية 133
40 الشك العلمي 134
41 نظرية المعرفة في فلسفتنا 141
42 النسبية التطورية 145
43 التجربة والمثالية 145
44 التجربة والشيء في ذاته 152
45 الحركة الديالكتيكية في الفكر 159
46 أ - تطور الحقيقة وحركتها 163
47 اجتماع الحقيقة والخطأ 169
48 التعديلات العلمية والحقائق المطلقة 172
49 انتكاس الماركسية في الذاتية 175
50 2 - المفهوم الفلسفي للعالم 177
51 المفهوم الفلسفي 179
52 تصحيح أخطاء 180
53 ايضاح عدة نقاط 183
54 الاتجاه الديالكتيكي للمفهوم المادي 187
55 الديالكتيك أو الجدل 191
56 1 - حركة التطور 197
57 2 - تناقضات التطور 219
58 أ - ما هو مبدأ عدم التناقض؟ 223
59 ب - كيف فهمت الماركسية التناقض؟ 225
60 الهدف السياسي من الحركة التناقضية 237
61 3 - قفزات التطور 241
62 4 - الارتباط العام 251
63 نقطتان حول الارتباط العام 255
64 مبدأ العلية 261
65 العلية وموضوع الاحساس 261
66 العلية والنظريات العلمية 263
67 العلية والاستدلال 265
68 الميكانيكية والديناميكية 266
69 مبدأ العلية والميكروفيزياء 268
70 لماذا تحتاج الأشياء إلى علة 272
71 أ - نظرية الوجود 272
72 ب - نظرية الحدوث 274
73 ج و د - نظرية الامكان الذاتي والامكان الوجودي 274
74 التأرجح بين التناقض والعلية 277
75 التعاصر بين العلة والمعلول 279
76 المناقشة الكلامية 279
77 المعارضة الميكانيكية 280
78 النتيجة 282
79 المادة أو الله 285
80 المادة على ضوء الفيزياء 286
81 نتائج الفيزياء الحديثة 291
82 النتيجة الفلسفية من ذلك 292
83 مع التجريبيين 294
84 مع الديالكتيك 295
85 المادة والفلسفة 297
86 الجزء والفيزياء والكيمياء 302
87 الجزء والفلسفة 304
88 النتيجة الفلسفية 305
89 المادة والحركة 306
90 المادة والوجدان 308
91 المادة والفيزيولوجيا 309
92 المادة والبيولوجيا 310
93 المادة وعلم الوراثة 312
94 المادة وعلم النفس 313
95 الادراك 319
96 الادراك في مستوى الفيزياء والكيمياء 322
97 الادراك في مستوى الفيزيولوجيا 322
98 الادراك في البحوث النفسية 324
99 الادراك في مفهومه الفلسفي 328
100 الجانب الروحي من الانسان 334
101 المنعكس الشرطي والادراك 336