قال سليمان: نصيحة تلقيها. فقال: ما أقول في سلطان استولى عنوة بلا مشورة من المؤمنين، ولا اجتماع من المسلمين؟ فسفكت فيه الدماء الحرام، وقطعت به الأرحام، وعطلت به الحدود، ونكثت به العهود، وكل ذلك على تنفيذ الطينة (1)، والجمع لمتاع الدنيا المشينة، ثم لم يلبثوا أن ارتحلوا عنها، فيا ليت شعري ما تقولون؟ وماذا يقال لكم؟ فقال بعض جلسائه: بئس ما قلت يا أقور (2)، أمير المؤمنين يستقبل بهذا؟ فقال أبو حازم: اسكت يا كاذب، فإنما أهلك فرعون هامان، وهامان فرعون، إن الله قد أخذ على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه: أي لا ينبذونه وراء ظهورهم. قال سليمان:
يا أبا حازم: كيف لنا أن نصلح ما فسد منا؟ فقال: المأخذ في ذلك قريب يسير يا أمير المؤمنين، فاستوى سليمان جالسا من اتكائه. فقال: كيف ذلك؟ فقال: تأخذ المال من حله، وتضعه في أهله، وتكف الأكف عما نهيت، وتمضيها فيما أمرت به. قال سليمان: ومن يطيق ذلك؟ فقال أبو حازم: من هرب من النار إلى الجنة، ونبذ سوء العادة إلى خير العبادة.
فقال سليمان: اصحبنا يا أبا حازم، وتوجه معنا تصب منا ونصب منك. قال أبو حازم: أعوذ بالله من ذلك، قال سليمان: ولم يا أبا حازم؟ قال: أخاف أن أركن إلى الذين ظلموا، فيذيقني الله ضعف الحياة، وضعف المماة. فقال سليمان: فتزورنا. قال أبو حازم: إنا عهدنا الملوك يأتون العلماء ولم يكن العلماء يأتون الملوك، فصار في ذلك صلاح الفريقين، ثم صرنا الآن في زمان صار العلماء يأتون الملوك، والملوك تقعد عن العلماء، فصار في ذلك فساد الفريقين جميعا. قال سليمان: فأوصنا يا أبا حازم وأوجز. قال: اتق الله ألا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك. قال سليمان: ادع لنا بخير. فقال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فبشره بخير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ إلى الخير بناصيته. قال سليمان: زدني. قال: قد أوجزت، فإن كنت وليه فاغتبط، وإن كنت عدوه فاتعظ، فإن رحمته في الدنيا مباحة، ولا يكتبها في الآخرة إلا لمن اتقى في الدنيا، فلا نفع في قوس ترمى بلا وتر: فقال سليمان: هات يا غلام ألف دينار، فأتاه بها، فقال خذها يا أبا حازم. فقال: لا حاجة لي بها، لأني وغيري في هذا المال سواء، فإن سويت بيننا وعدلت أخذت، وإلا فلا، لأني أخاف أن يكون ثمنا لما سمعت من كلامي. وإن موسى بن عمران عليه السلام لما هرب من فرعون ورد ماء مدين،