وقال عبيد الله بن زياد لمن كان عنده من أشراف أهل الكوفة: ليشرف كل رجل منكم في ناحية من السور، فخوفوا القوم.
فأشرف كثير بن شهاب، ومحمد بن الأشعث، والقمقاع بن شور، وشبث ابن ربعي، وحجار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن، فتنادوا: (يا أهل الكوفة، اتقوا الله ولا تستعجلوا الفتنة، ولا تشقوا عصا هذه الأمة، ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام، فقد ذقتموهم، وجربتم شوكتهم).
فلما سمع أصحاب مسلم مقالتهم فتروا بعض الفتور.
وكان الرجل من أهل الكوفة يأتي ابنه، وأخاه، وابن عمه فيقول: انصرف، فإن الناس يكفونك. وتجئ المرأة إلى ابنها وزوجها وأخيها فتتعلق به حتى يرجع.
فصلى مسلم العشاء في المسجد، وما معه إلا زهاء ثلاثين رجلا.
فلما رأى ذلك مضى منصرفا ماشيا، ومشوا معه، فأخذ نحو كندة، فلما مضى قليلا التفت فلم ير منهم أحدا، ولم يصب إنسانا يدله على الطريق، فمضى هائما على وجهه في ظلمة الليل حتى دخل على كندة.
فإذا امرأة قائمة على باب دارها تنتظر ابنها - وكانت ممن خف مع مسلم - فآوته وأدخلته بيتها، وجاء ابنها، فقال: من هذا في الدار؟
فأعلمته، وأمرته بالكتمان.
* * * ثم إن ابن زياد لما فقد الأصوات ظن أن القوم دخلوا المسجد، فقال: انظروا، هل ترون في المسجد أحدا؟ - وكان المسجد مع القصر -.
فنظروا فلم يروا أحدا، وجعلوا يشعلون (أطناب) القصب (1)، ثم يقذفون بها في رحبة المسجد ليضئ لهم، فتبينوا، فلم يروا أحدا.
فقال ابن زياد: إن القوم قد خذلوا، وأسلموا مسلما.
وانصرفوا.