وقد أورد عليه بوجوه:
أحدها: أن سبق المعنى إلى الذهن من مجرد اللفظ موقوف على العلم بالوضع ضرورة كون العلم بالوضع شرطا في فهم المعنى كذلك من اللفظ، فإذا كان العلم بالوضع موقوفا على سبق المعنى إلى الذهن كذلك كما هو قضية جعله دليلا عليه لزم الدور.
والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن المقصود تبادر المعنى من اللفظ عند العالم بالوضع وتوضيحه: أن الجاهل بلسان قوم إذا أراد معرفة أوضاعهم رجع إلى أرباب ذلك اللسان، فإذا وجد انسباق معنى من اللفظ عندهم حال الإطلاق وانتفاء القرائن علم وضع اللفظ بإزائه في لسانهم وجرى ذلك مجرى نصهم بوضع ذلك اللفظ له، بل هو أقوى منه لاحتمال الكذب فيه بخلاف المقام، لما عرفت من كون الفهم المذكور من لوازم الوضع المساوية له. والظاهر أن ذلك كان طريقة جارية لأرباب اللغة في معرفة الأوضاع اللغوية كما يشهد به ملاحظة طريقتهم.
وحينئذ فنقول: إن العلم بالوضع موقوف على سبق المعنى من اللفظ عند العالم بالوضع، وسبقه عنده موقوف على علمه بالوضع لا على علم ذلك الجاهل المتمسك بالتبادر فلا دور.
ثانيهما: أن تبادر المعنى من اللفظ مسبوق بالعلم بالوضع لكن لا يستلزم ذلك علمه بذلك العلم، فقد يحصل الغفلة عنه لطرو بعض الشبه للنفس وارتكازه في الخاطر، إذ من البين جواز انفكاك العلم بالشئ عن العلم بالعلم به، فهو حينئذ جاهل بذلك الشئ في معتقده غير عالم به وإن كان عالما به بحسب الواقع، فبالرجوع إلى تبادر المعنى عنده حال الإطلاق الذي هو من لوازم علمه بالوضع يرتفع عنه الجهل المذكور ويكون ذلك موجبا لعلمه بالوضع بحسب معتقده، فنقول إذن: إن علمه بالوضع بحسب معتقده متوقف على تبادر المعنى من اللفظ وتبادره منه عنده إنما يتوقف على علمه بالوضع بحسب الواقع وإن كان غافلا عن علمه