محررة أي تخدم مسجد بيت المقدس وكانوا يتقربون بذلك " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا " ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء كما تقدم بيانه في سورة آل عمران فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام " انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " أي اعتزلتهم وتنحت عنهم وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس قال السدي لحيض أصابها وقيل لغير ذلك قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قول ربك " فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا " قال خرجت مريم مكانا شرقيا فصلوا قبل مطلع الشمس رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا إسحاق بن شاهين حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر عن ابن عباس قال: إني لاعلم خلق الله لأي شئ اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى " فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا " واتخذوا ميلاد عيسى قبلة وقال قتادة " مكانا شرقيا " شاسعا متنحيا وقال محمد بن إسحاق ذهبت بقلتها لتستقي الماء وقال نوف البكالي اتخذت لها منزلا تتعبد فيه فالله أعلم وقوله " فاتخذت من دونهم حجابا " أي استترت منهم وتوارت فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام " فتمثل لها بشرا سويا " أي على صورة إنسان تام كامل قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله " فأرسلنا إليها روحنا " يعني جبرائيل عليه السلام وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم عليه السلام وهو الذي تمثل لها بشرا سويا أي روح عيسى فحملت الذي خاطبها وحل في فيها وهذا في غاية الغرابة والنكارة وكأنه إسرائيلي " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " أي إن كنت تخاف الله تذكيرا له بالله وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل فخوفته أولا بالله عز وجل قال ابن جرير: حدثني أبو كريب حدثنا أبو بكر عن عاصم قال قال أبو وائل وذكر قصة مريم فقال قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك " أي فقال لها الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك ويقال إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا وعاد إلى هيئته وقال " إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا " هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء وقرأ الآخرون " لأهب لك غلاما زكيا " وكلا القراءتين له وجه حسن ومعنى صحيح وكل تستلزم الأخرى " قالت أنى يكون لي غلام " أي فتعجبت مريم من هذا وقالت كيف يكون لي غلام أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ولست بذات زوج ولا يتصور منى الفجور ولهذا قالت " ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " والبغي هي الزانية ولهذا جاء في الحديث النهي عن مهر البغي " قال كذلك قال ربك هو على هين " أي فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاما وإن لم يكن لك بعل ولا يوجد منك فاحشة فإنه على ما يشاء قادر ولهذا قال " ولنجعله آية للناس " أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى
(١٢١)