المسألة الثانية: احتج أصحابنا على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية، ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم: أنى لك هذا؟ قالت هو من عند الله، فحصول ذلك الرزق عندها إما أن يكون خارقا للعادة، أو لا يكون، فإن قلنا: إنه غير خارق للعادة فهو باطل من خمسة أوجه الأول: أن على هذا التقدير لا يكون حصول ذلك الرزق عند مريم دليلا على علو شأنها وشرف درجتها وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصية ومعلوم أن المراد من الآية هذا المعنى والثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية * (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) * والقرآن دل على أنه كان آيسا من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته، فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد فيستقيم قوله * (هنالك دعا زكريا ربه) * أما لو كان الذي شاهده في حق مريم لم يكن خارقا للعادة لم تكن مشاهدة ذلك سببا لطمعه في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر الثالث: أن التنكر في قوله * (وجد عندها رزقا) * يدل على تعظيم حال ذلك الرزق، كأنه قيل: رزقا. أي رزق غريب عجيب، وذلك إنما يفيد الغرض اللائق لسياق هذه الآية لو كان خارقا للعادة الرابع: هو أنه تعالى قال: * (وجعلناها وابنها آية للعالمين) * (الأنبياء: 91) ولولا أنه ظهر عليهما من الخوارق، وإلا لم يصح ذلك.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: المراد من ذلك هو أن الله تعالى خلق لها ولدا من غير ذكر؟
قلنا: ليس هذا بآية، بل يحتاج تصحيحه إلى آية، فكيف نحمل الآية على ذلك، بل المراد من الآية ما يدل على صدقها وطهارتها، وذلك لا يكون إلا بظهور خوارق العادات على يدها كما ظهرت على يد ولدها عيسى عليه السلام الخامس: ما تواترت الروايات به أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها السلام كان فعلا خارقا للعادة، فنقول: إما أن يقال: إنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك، والأول باطل لأن النبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه السلام، ولو كان ذلك معجزة له لكان هو عالما بحاله وشأنه، فكان يجب أن لا يشتبه أمره عليه وأن لا يقول لمريم * (أنى لك هذا) * وأيضا فقوله تعالى: * (هنالك دعا زكريا ربه) * مشعر بأنه لما سألها عن أمر تلك الأشياء ثم إنها ذكرت له أن ذلك من عند الله فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من المرأة العقيمة الشيخة العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا بأخبار مريم، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال: إنها كانت كرامة لعيسى عليه السلام، أو كانت كرامة لمريم عليها السلام، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على وقوع كرامات الأولياء.