أمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالة المعجزة على كونه صادقا، وذلك غير جائز، واعلم أنه ليس المراد من قوله * (ما كان لبشر) * ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق، وظاهر الآية يدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أن الله آتاه الكتاب والحكم والنبوة، وأيضا لو كان المراد منه التحريم لما كان ذلك تكذيبا للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجل فعلا فقيل له إن فلان لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن تكذيبا له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلام قال لهم: اتخذوني إلها من دون الله فالمراد إذن ما قدمناه، ونظيره قوله تعالى: * (ما كان الله أن يتخذ من ولد) * (مريم: 35) على سبيل النفي لذلك عن نفسه، لا على وجه التحريم والحظر، وكذا قوله تعالى: * (ما كان لنبي أن يغل) * (آل عمران: 161) والمراد النفي لا النهي والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله * (أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة) * إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولا ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه الإشارة بالحكم، فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم، قال تعالى: * (وآتيناه الحكم صبيا) * (مريم: 12) يعني العلم والفهم، ثم إذا حصل فهم الكتاب، فحينئذ يبلغ ذلك إلى الخلق وهو النبوة فما أحسن هذا الترتيب.
ثم قال تعالى: * (ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: القراءة الظاهرة، ثم يقول بنصب اللام، وروي عن أبي عمرو برفعها، أما النصب فعلى تقدير: لا تجتمع النبوة وهذا القول، والعامل فيه (أن) وهو معطوف عليه بمعنى ثم أن يقول وأما الرفع فعلى الاستئناف.
المسألة الثانية: حكى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: * (كونوا عبادا لي) * إنه لغة مزينة يقولون للعبيد عبادا.
ثم قال: * (ولكن كونوا ربانيين) * وفيه مسألتان؛ المسألة الأولى: في هذه الآية إضمار، والتقدير: ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الاضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، ونظيره قوله تعالى: * (وأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) * (آل عمران: 106) أي فيقال لهم ذلك.